دعوى باريس

على مواقع التواصل الاجتماعي صورة متداولة معبرة جدا، تجسد مفارقة الموقف الرسمي في التعامل مع حراك الريف من جهة، وبعض من ينتسبون لجبهة الوهم في الجهة المقابلة، فحين يشدد الأولون على أن مطالبهم اجتماعية واقتصادية بحتة يناضلون من أجل تحقيقها في ظل النظام القائم، تنهال عليهم الاتهامات من كل جانب بالنزوع للانفصال ومحاربة الدولة، في حين يَلقى الآخرون من لين الجانب والصبر على استفزازاتهم ما يثير السخرية، وهم الذين لا يتحرجون من تسمية الدولة بالعدو والمحتل علانية.

قفزت هذه المفارقة للسطح مع الموجة الأخيرة من ردود الأفعال التي أثارتها صور إحراق العلم الوطني في مسيرة باريس، هذا الفعل الذي لا يستحق أن يُمنح هذا الزخم كله، ليس فقط لأنه تصرف فردي تبرأ منه الجميع، ولكن أيضا لأن الأولى في هذا الموقف الالتفاف حول مطالب المسيرة التي هي من الجدية والاستعجال بما يجدر إيلاءها بقعة الضوء كاملة دون تشويش، ودون الالتفات أيضا لزمرة المحرضين العازفين على وتر الخصومة والعداء للريف.

وعودا على بدء، فالموضوع الأحق اليوم ببعض الضجيج هو مصير الشباب المعتقلين على خلفية الحراك الاجتماعي في الريف، والذين جاوزا السنتين والنصف على اعتقالهم بسبب اتهامات تتشابه كثيرا للأسف وما يروجه المتحمسون جدا للدفاع عن الوطن في غير موضع الدفاع. إن الجريمة الحقيقية هي تلك التي نفذها الفساد عبر المؤسسات على مدار عقود بتهميش وسرقة هذه المناطق، والإجهاز على أبنائها اليوم بتغيبهم في السجون بسبب انتفاضتهم. ليطالهم الإهمال والنسيان ويخفت صدى معاناتهم بما لا يمكن أن يأملوا معه انفراجا قريبا أو بعيدا، وهذا اليأس هو نفسه الذي دفعهم قبل مدة للعب ورقتهم الأخيرة ربما، عندما خرج ستة منهم على رأسهم الزفزافي ببيان اسقاط الجنسية.

ساعتها كل ما لاقته هذه الدعوى كانت دروسا في الدفاع عن الوطنية والتشبث بالهوية، فانبرى متخم المعدة هانئ البال جيد الصحة مِن مَن لا يفزعه مرض وقلة حيلة ولا تسكنه هواجس البطالة ولا يمنعه ضيق الحال من ممارسة حقه في انشاء الأسرة، مدافعا عن ما هو غني عن دفاعه، وعلى غراره يقوم جمع من المغاربة اليوم لينكر كل صوت أو همس على المعتقلين ويطالبهم بالتراجع قليلا وترك فرصة للتصحيح ويحملهم مسؤولية ما يعتبره تعقيدا للملف، ولا يتوانى عن إدانتهم بسبب أي سقطة أو هفوة يأتيها من يدعي مساندتهم، وهذا تحول غريب في منطق الدفاع صار يحمل الضحايا مسؤولية التعسف الذي يتعرضون له.

والحقيقة أننا تحولنا نحن الجمهور المتفاعل بحسن نية حتى لا نتحدث عن أصحاب بعض الأجندات المخالفة، من دورنا الأول كجمهور يكتفي بالتفرج بعد أن قدم القرابين، لطابور خامس يهادن ويتماهى حد اختلاط المواقف وتداخل المفاهيم، ولو أدرنا نفعا فلا يجب أبدا أن نناقش قرارات المعتقلين بغرض تقييمها، وإن كان ولابد من رأي فان أصلح مكان له هو أول صندوق قمامة، فقط الذين يعانون تعسف المخزن هم من يملكون أحقية القول والفعل.

الزمن المتوقف الذي حوصر داخله المعتقلون منذ صيف 2017 ومعاناة ذويهم في غيابهم ومدنهم المعسكرة، تمنحهم كل الأحقية في كل محاولات إحياء قضيتهم، واليأس الذي بدا يظهر في بياناتهم وفي خط تطور خطواتهم الاحتجاجية (إضراب ربيع الأبلق المفتوح وبيان إسقاط الجنسية وقبلهما خياطة المعتقلين لأفواههم) يسائلنا نحن قبل المتسببين في الأزمة عن دورنا وما فعلنا، ويذكرنا أن رفض الظلم أمر واجب والتحرك ضده بما هو متاح لا يجب أن يعيقه ما قد يحدث من انفلاتات هنا وهناك بعفوية يغديها الجهل والتهور، أو بقصد يغطي نوايا أخرى.

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)