ما بعد كورونا

لأن الواجب اليوم يلزم كل صاحب مساحة للحديث أو الكتابة أو غيرهما، أن يكون جنديا في صف الوطن لا سلاحا بيد الخصم، ولأن من تمام الإيمان والأخلاق أن نتحلى والصبر واليقين بانتهاء هذه الأزمة على خير، ولأن من أبجديات المواجهة استحضار التفاؤل وعدم النكوص، فأنا لن أتحدث عن يوميات صراعنا مع الابن الجديد لعائلة كورونا، لكن سأحاول الخوض في حديث ماذا بعد الأزمة، ما الذي علينا الوقوف عنده واستخلاص العبر منه؟

ولعل أغلبنا يتمنى أن تعيد هذه الأزمة تشكيل العلاقات وترتيب الأولويات، والتأثير على شكل توزيع الثروة على صعوبة هذا الأمر، وأن تشكل التفاتة حقيقية نحو معدمي الدخل والصوت، وتبني قواعد جديدة للعلاقة بين المواطنين ومسؤولي الحكومة وأجهزة الأمن استمرارا لحالة التصالح والود الطارئ الحاصلة اليوم، والبدء فورا في معالجة مكامن الخلل التي وقفنا على جديتها وطابعها الاستعجالي.

كل هذه أماني لا يمكن التكهن بمدى إمكانية تحققها، لكن لابد أن الدروس المستخلصة اليوم من وراء هذه الأزمة كثيرة، وهي ظاهرة منذ الآن، ولا يمكن أن يشكل تجاهلها سوى حماقة أخرى كبيرة. وبين كل نقاط الضعف والوهن التي كشفت عنها الأزمة، يبقى الأولى بالاعتبار هو الإنسان، الإنسان الذي وصل في بعض تفاعلاته مع هذا الوضع الجديد لمدارج من العظمة مهيبة، وفي أخرى لمنحدرات من الحقارة وخيمة.

إن حالة الارتياح والتثمين التي يبديها المغاربة للإجراءات الاحترازية والخطط الاستباقية لمحاصرة هذه الهجمة المستجدة يمكن البناء عليها لإعادة وصل حبل الثقة المقطوع منذ عقود، كذلك تبني المواطنين للخطاب الرسمي وامتثالهم لما يرشح عن الأجهزة الرسمية أمر مفرح ومبشر، اللهم بعض السلوكيات الشاذة من طرف شريحة غير قليلة من الناس، هم الذين تمكن جهاز السلطة -بطرقه المختلفة- من عقولهم ووجدانهم واستطاع أن يدجنهم ويجعلهم في حالة اعراض مستمر عن كل شيء، سواء تعلق الأمر بامتهان كرامتهم وحرمانهم من حقوقهم في الوضع العادي، أو باحتمال فناءهم وعائلاتهم في هذا الوضع الطارئ، وهذا واحد من أهم المداخل التي يجب أن يهتم بها المعنيون لاحقا، ذلك أن أكثر المتشائمين ربما لم يتصور أن محاولات سحق الطبقة الدنيا ومحاصرتها في دوامة البحث عن الخبز فقط، ستكون لها نتائج ستهدد أعمارهم، ووجودهم، قبل الامتيازات التي استأثروا بها دون غيرهم.

في هذه الأزمة ومثلها من أزمات لم يخل منها التاريخ الإنساني، ظهرت حاجة الدولة لأفراد لم تولهم اهتمامها، ولم تضمهم مخططاتها وإحصائياتها وجهودها، في الأزمة حين يتعلق الأمر بحرب مع الوقت وحيث لا يمكن أن تحقن الوعي في الوريد ولا أن تمنحه في شكل كبسولات تقف أمام نتائج عقود من التدجين، كان بهدف إلهاء الناس عن طلب ما هو حق، فإذا به يكاد يكون سببا في فناء الجميع في النهاية.

وربما بعد هذا الدرس القاس يصل أصحاب الخطط اليوم لنتيجة مفادها أن الاهتمام بمواطن تحت الخط وتحت العتبة لا يضمن حياته الكريمة فقط ولكن يؤثر أيضا على حياتهم بشكل أو بآخر.

في هذه الأزمة أيضا، اتضح أن أكثر من يحمل هم التوعية والمساعدة هم نفسهم المعارضون والمزعجون الذين لا يفترون عن المناداة بالعدالة الاجتماعية طوال الوقت، هؤلاء الذين لم يجدوا أي حرج في تبني تعليمات السلطة والإشادة بها وحث الناس على تتبعها واحترامها، رغم ما عانوه من تحريضها ومضايقاتها، لعل السلطة تدرك أن هؤلاء عندما ينادون بوطن يسع الجميع يقصدون ذلك حرفيا، وأنهم ليس خصوما للصفة ولا وكلاء مصلحة شخصية أو فئوية أو خارجية، وأنهم أبعد ما يكونون عن طالبي الشهرة والسمعة، وأنهم عندما جد الجد بينوا على استعدادهم لفداء هذا الوطن عن محبة وطيب نفس، وتغليبا للمصلحة العامة.

إن أعظم أمانينا اليوم ونحن نعيش مخاضا جديدا أن نولد منه أكثر فهما وتفكرا، وأن يبدأ من فور انتهاء الأزمة رد الاعتبار لأعمدة هذا البلد الذين تبين مدى ضعفه وعريه دونهم، وأن تكون الإدارة حقيقية وصادقة هذه المرة، فلسنا ندري هل نمنح فرصة أخرى في هذا العالم الواعد بالأزمات، والذي أبان على أخلاق لا تشجع كثيرا على الاعتماد عليه والركون إليه وقت الحاجة.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)