رحلة الموت

يلتقط الناس ما أفرج عنه البحر من أجساد ’’الحراڭة‘‘.. بعضها الآخر يتيه إلى الأبد في اللجج، كنا نسمع أنهم يصبحون طعاما للحيتان والقرش، لكني لم ألتفت يوما لهذه الرواية، لم أستطع أن أصدق أن الحوت أيضا يتحالف ضدهم ويتقوى على ضعفهم، ولا أن أسماك البحر وطيور الشط تجرؤ على الاقتراب من تلك الأجساد لأن لحومها ولا شك مسمومة.. وحرام أيضا، حرمة الأمل الذي راودها على الكسر، فانطلقت تبحث له عن ولادة جديدة، حرمة الألم المصنوع بشكل ممنهج داخل دواليب إداراتها وأروقة مؤسساتها التي تخصصت في اغتيال أحلامها.

شواطئ الوطن لها مواسم معلومة، تغدو فيها مقابر مكشوفة.. أجساد مسجاة على الرمل الذهبي بلوري الحبيبات.. كتل من الآدمية البائسة متناثرة على صفحة الشاطئ كأنها شامات عشوائية على خد بالغ الصفاء والنظارة، لا يشوبه سوى ما تبقى من جثث وأغراض وملابس تحكي آمال أصحابها وهم بصدد الاستعداد لمغادرة الجحيم بالأمس القريب، وتضم آثار معركتهم الأخيرة ضد جاذبية الوطن.

لا أحد منهم يعود ليحكي لنا كيف حدث الأمر؟ متى ابتدأت الفاجعة، ماذا قال بعضهم لبعض، هل قاوموا حتى النهاية؟ هل استسلموا تعبا أم يأسا؟ كم لبثوا قبل أن تنالهم رحمة الموت وترقى بأرواحهم تاركة لليم الأجساد شواهد؟ وكيف بلغت هذه الأجساد لحودها على الشواطئ؟

اليوم هذه الجثث تتناثر على حيز أكبر.. تصل دول أخرى.. جثث لنا على كل ساحل في المتوسط.. حق ودم وحلم ملقى على بوابة كل مدينة ساحلية، يتولى شاطئها مهمة رسول غير أمين، يحمّله شباب الوطن جبالا من أماني وندور ليعبر بها بعيدا، في تصالح تام مع ما قد يقرره، فإما يمضي بها آمنة وإما يقبرها في خضمه ويعود بحامليها جثثا لا تطمع في النهاية سوى برقعة من هذا الوطن تتوارى فيه، بعد أن ضاق عليها على اتساعه وهي حية.

هذا العبور صار هما مشتركا بين الجميع، كل يختبر حظه حسب ما تتيحه له فرصه وإمكانياته، هذا الألم المزمن الذي بات يؤرق الجميع، هذا المنشود الذي تخطى إغراؤه كل ما عداه، الذي أشعل هذه الرغبة المحمومة في قلوب الأطفال والمراهقين وحاملي أفضل الشهادات كل على سواء، الباحثين عن العلم والعلاج والحرية واللقمة النظيفة.. الراغبين في الحياة.

وهؤلاء الذين يقدمون على المخاطرة بالروح لا يخفى عليهم ما يمكن أن تتحول إليه رحلة الخلاص/الموت، وهم بقبولهم النزول ضيوفا على البحر يوافقون له سلفا على سلب حياتهم إذا شاء، إنهم يقفون خاشعين على عتباته واهبين له الأرواح على الكفوف، وهو المارد الذي يغنم حصة منها في كل مرة، كأن بعضهم يذهب قرابين في سبيل نجاة آخرين.. وأي نجاة تنشدها الروح بعدما عاينته من نوائب.

قالوا إن الذي يجعلك تستمرئ مرا هو قطعا شيء أمر منه بكثير.. تذكرت هذا وأنا أحدثه عن كون المخاطرة بالنفس في قارب هجرة سرية قد يعني خسارة كل شيء، وأن التجربة برمتها مخيفة جدا بل مرعبة.. أجابني بأنه يعرف ذلك ويخشاه أيضا، لكن ما يدفعه إليه أكثر رعبا بمراحل.

ونحن إذ لا ندري كيف واجه الشباب لحظاتهم الأخيرة، وكيف فارقوا الحياة وهم لم يحيوها بعد، وكيف غسل الماء المالح آخر تعابير رسمت على وجوههم الكالحة، فإنا نعرف بلا أدى شك أو ارتياب المسؤولين عن دفعهم لهذا الأمر، ولو أننا نملك معاقبتهم على هذا الموت بالجملة الذي يتسببون فيه، لحكمنا عليهم بنفس المصير لمرات متوالية لا تنتهي، عذابا سيزيفيا يطفئ النيران التي تشتعل بسبب صور الجثث المبثوثة على السواحل، وينزل على الذين يقامرون كل ليلة بمستقبل البلاد فيما يدعونه سهرا على مصلحته.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)