خواطر في “مزرعة الحيوان”

قرأت رواية “مزرعة الحيوان” لكاتبها جورج أورويل في بداية هذا الموسم، وظلت عالقة بذهني تطابقاتها مع الوقائع الجديدة والقديمة، الرواية الصادرة قبل أكثر من سبعين سنة، والمصنفة ضمن أفضل مائة رواية عالمية تقدم لنا وصفا تصويريا نجاهد لتجنب إسقاطه على النماذج الحديثة من الانتفاضات والثورات لكن دون جدوى.
وهذا ربما ما يفسر بقاء الفكر منشغلا بمآلات الأحداث في الرواية حتى بعد أشهر طويلة على الانتهاء من مطالعتها، هل كان جورج أورويل بصدد وضع القالب الذي يصنع أشكالا متطابقة من مصائر الثورات على اختلاف حيثياتها وأماكنها؟
يقدم الكاتب في روايته مسارا يشبه مضمار سباق خط انطلاقته هو نفسه خط الوصول، هكذا تحركت الثورة التي ستقودها حيوانات المزرعة على الإنسان من تحقيق الحرية إلى حالة استبدادا جديدة صنعها ثوار الأمس، أكثر بؤسا وفسادا.
في الرواية -كما الواقع- ستتقدم مجموعة من الخنازير لقيادة ثورة الحيوانات وذلك باعتبارها الأذكى، وهو الأمر نفسه الذي يتكرر عندما يعتبر شخص أو جماعة ما أنه الأحق بقيادة التغيير، ليس من منطلق التمثيل ولكن النيابة الكلية لأنه الأجدر والأقدر، غالبا ينتهي الحال بهؤلاء إلى الركون لأحضان السلطة المستبدة، أو حالة اكتمال الثورة التحول لطغاة جدد، ذلك أن أصل الشر هو اعتبار أحدهم نفسه أفضل من البقية، شيئا فشيئا يتطور الأمر لاستعباد كامل.
يبدأ الأمر -أمر الثورة- بقواعد صارمة جدا يراد بها ضمان توفير الأساس الصلب للبنية التي تُقدم كنموذج جديد يطوي ما سبقه من استبداد، كما قدمت الراوية فالحفنة القائدة (مجموعة الخنازير) ستلزم نفسها بالقواعد حد القسوة، وإن سُمح للعامة ببعض التنفيس فهو حصر عليها، في اتفاق مع قاعدة أن القائد لا يأخذ بالرخص.
كل هذا الصرامة تصاحب فترات السعي نحو السلطة، لاحقا عند نجاح السعي (عبر الثورة أو الانتخابات) يتغير الوضع الاعتباري للقادة، فينطلق الالتفاف على هذه القواعد بالتغيير المباشر قدر الاستطاعة، أو بإيراد اجتهادات في الفهم وتأويلات تحت الطلب، بطل هذه الخطوة هم العامة أنفسهم.
شيئا فشيئا ستبدأ صورة الطاغية الجديد ثائر الأمس في التشكل والظهور بشكل لا يمكن تفسيره بغير حقيقته، وسينتقل لاستعمال فزاعة عودة الحال لما كان عليه، وعن محورية دوره المنقذ، إذا ما أبانت العامة تأففا أو استنكارا. بعد تفاقم الوضع أكثر ستصبح هذه الفزاعة مطلبا خفيا يراود الناس في شكل حنين لأيام مضت بكل قسوتها التي دفعت للثورة بادئ الأمر، لا يكتشف الأشخاص أنهم كانوا بصدد أيام رمادية حتى يواجهوا الأيام السوداء، ولا يعرفون أين يصنفون المستبد حتى يروا أسوء منه.
هكذا يختار الناس المفاضلة بين سيئين، لأنها الخيار الأسهل، رغم أن الوضع الأكثر سوء يجب أن يكون حافزا للسعي نحو الأفضل لا للحنين للأقل سوء، وجوهر هذا الخلاف هو وجود قناعة بأننا نستحق، المزيد من الأوضاع السيئة تقتضي المزيد من الرغبة الملحة والإرادة الصادقة في التغيير، لا الركون للحاضر باعتباره أقل بؤسا.
في هذه المرحلة ستبدو الأوراق مكشوفة تماما، مستبد جديد قادم بشرعية ثورة هو ولا شك مستبد أسوأ من غيره، مواجهة ردود الأفعال الناجمة عن صدمة انهيار أحلام التغيير بفاتورتها الكبيرة لا بد أن تكون بالحديد والنار (في الرواية تلجأ الخنازير لإعداد فرقة من الكلاب الشرسة) للفتك بالخارجين عن دائرة الطاعة تحت غطاء الاتهام بالخيانة والعمالة دائما.
في الرواية إحالة أيضا على تحركات المزارع المجاورة في تفاعلها مع ثورة الحيوانات، حيث يستحيل فصل معطى الثورة عن التأثيرات الخارجية، التفاعلات في هذه الحالة سيطغى عليها الخشية من استنساخ التجربة خارج حدودها المكانية، ما يبرر لأطراف الخارج التدخل والهجوم من منطلق رد الفعل الاستباقي.
الرواية تصيبك بالصدمة من تشابه الأحداث في الواقع اليوم، ومن ثورة الكاربون التي تتكرر كل مرة، خاصة إذا كنت تصدق بحدوث الاستثناء، أيضا الرواية تثير السؤال الأصعب: لماذا نكرر نفس الأخطاء؟ الجواب: ربما لأننا لا نقرأ.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 1 )
  1. سفيان :

    مقال رائع.

    0

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)