التفاهة.. بين الصانع والمستهلك

الذي يجعل عموم رواد مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب، بما يمثلونه من شريحة مهمة -عدديا على الأقل- تعبر إلى حد ما عن جانب من اهتمامات المغاربة، الذي يجعلهم يتابعون بحرص وشغف قضية تتعلق بتفاصيل حياة خاصة لشخصية مشهورة أو مغمورة، ويتغاضون في المقابل عن أمور مصيرية وحاسمة تتعلق بالملامح التشريعية للبلاد مثلا، يقودنا للسؤال عن المصدر، عن منتج التفاهة وداعمها ومروجها وأيديها المعلنة والخفية.

لا يمكن اليوم أن نسلّم بأن ما يندرج ضمن خانة الأكثر مشاهدة هو تعبير حر غير موجه لما يهتم به المغاربة، ذلك أنه يستحيل ألا يعرف هذا الجانب بما يمثله من أهمية كبيرة تدخل اللاعبين على كثرتهم. ولأن الطرف الثالث خفي دائما، تبقى كشافات الملاحظة مسلطة فقط على أبطال المحتويات التافهة من جهة، وجمهورها ومتابعيها من جهة ثانية.

الطيبون ظلوا يستهينون بالظاهرة ويضعون الرهان على لحظية هذا الطوندونس/الترند، ومآله المعلوم بالضرورة ضمن قائمة المتجاوز والمنسي، وهذا واقع حاصل، غير أن المعجز هو تتابع هذه التوافه بطريقة تثير الغرابة، فلا يكاد ترند ما يخبو حتى يولد آخر جديد من نفس رحم التفاهة البائس. هكذا صار التعويل على الوقت وانتظار انقشاع هذه الغيمة أصبح أمرا غير مجدٍ، ففضاء التواصل ينتج المزيد منها وفوق الحاجة.

هذه الترندات التي لا تعدو أن تكون تلوثا سمعيا وبصريا وانحدارا قيميا وذوقيا، لا يمكن محاكمة أبطالها الذين لا يعتبرون في الأصل ممتهنين أو منتجين للفكر أو الثقافة أوالفن، لأنهم في الغالب أشخاص من العامة يستغلون إمكانية العرض والنشر المتحرر من كل القيود، وغير الخاضع لا لتدقيقات رقيب ولا لتحملات دفاتر، لهذا فالتوجه لهم بخطاب أمر مفلس تماما كعملهم، بعض المنصات والمنابر الذي تمثل مؤسسات حقيقية والتي تساهم أيضا بتغليب المحتوى التافه لا تخرج تبريراتها عن تماشيها مع الذوق العام والعمل وفق مبدأ ’’ ما يطلبه من الجمهور‘‘، وهو مبرر قديم جديد يلقى باللائمة على المتلقي ويهرب من المسؤولية.

الفضاء المفتوح الذي جاءت به منصات التواصل الاجتماعي -والذي يجب أن يظل كذلك- اليوم، مكن الجميع من صناعة الخطاب، وحشد الاهتمام بقضايا محددة، وصناعة إنتاج خاص مهما كان مفلسا وبائسا، الأمر اليوم لم يعد مقتصرا على من يملك المواهب التي تؤهله للعبور لقنوات التواصل، فالوصول للعامة صار سهلا ومتاحا طوال الوقت.

أما نزوع أغلبية منتجي المحتوى نحو السفائف والتفاهات فهو لا يبدو خيارا بين عدة إمكانيات، ولا حتى انتاجا يتفق وطلبات الجمهور، ولكنه الخيار الوحيد أمام فقراء المواهب، فارغي الرؤوس.

الجمهور أو جيش التفاهة الذي يستطيع خلال ساعات جعل خرجة معينة حديث العام والخاص والصغير والكبير، ويضمن بقاءها كذلك لأيام ضمن قائمة الأكثر مشاهدة لا يمكن أبدا الاستهانة به، أو اعتباره مستهلكا فقط، بل هو عنصر رئيس في خط إنتاج التفاهة المزدهر.

ولابد أن هؤلاء المتابعين يدركون حجم بلادة هذه الانتاجات أكثر من أصحابها الذين تتجاوزهم تلك الشهرة اللحظية، فيعمدون في سبيل استعادة الاهتمام والتفاعل إلى رفع السقف أكثر -أو ربما حفر القاع أكثر- بتقديم جرعات زائدة من الفضائحية.

لكن هذا لا يمنعهم من البحث عما يشبههم، ما يتفق مع اهتماماتهم وطموحهم، مع ما لا يحثهم على التفكير والتركيز وبذل الجهد من أجل الفهم، وفي النهاية فاليوتيوب يقترح عليك ما يوافق نتائج بحثك، والفايسبوك وتوتير والانستغرام يجمعون لك قبيلة افتراضية تشبهك في الميول وتشاركك الطباع، وهذا الأمر الدقيق جدا المتعلق بخوارزميات رياضية معقدة لا يمكنك أبدا تحميله المسؤولية.

طبعا لا يمكن حصر جميع المتتبعين في خانة جمهور القشور، المؤسف أن الكثيرين يدفعهم الفضول لمعرفة مواضيع الساعة والبقاء على اطلاع، إلى التحول دون قصد لرقم مضاف في قائمة المشاهدات، يطيل من عمر هذا المحتوى، ويتسبب في إظهاره لشريحة أكبر من رواد المنصات المختلفة.

أنه لا شيء غير السير المستميت نحو الحائط، وتأجيل نقاش القضايا الكبرى الفارقة، وتدجين الأفهام والعقول الذي نتورط فيه جميعا بنسب مختلفة.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)