اليسار وممكنات الفهم (الجزء 1)

آيت بوزيد محمد

 

إن التفكير في إعادة استقراء بعض المخرجات لفهم اليسار أضحت ضرورة لها من الأهمية ما يؤهلها أن تكون محاولة لفهم ورم الإرتهان والارتخاء الذي أصاب الجسد اليساري التنظيمي والوهن الممارساتي، وإن كانت مضامين هذه المحاولة قد تكون مجردة من سطوة التاريخ وسلاسل الجرد الكرنولوجي المستفيض نسبيا، ولكن الاحتكام بمقتضيات هذا القيد لا يمنع من المرور على بعض السياقات المرحلية لتأريخ وتأثيث المشهد اليساري.

 

إن الطريقة العلمية لتحديد المفهوم “اليسار”واستخراج مدلوله هو عبر عبر “قراءته”، أي التفكير فيه داخل الفكر الذي استعمله؛ بمعنى اعتباره تعبيرا مكثفا واسقاطا لذلك الواقع مهما بلغت درجات تعقيداته.

 

حسب محمد عابد الجابري “فالطريقة الأسلم لتوضيح مفهوم من المفاهيم هي نقله من ميدان المجرد إلى ميدان “المشخص”. والمشخص هنا قد يكون الواقع العياني نفسه، وقد يكون الحقل المعرفي أو الايديولوجي الذي استعمل داخله ذلك المفهوم، وفي كلتا الحالتين تكتسي عملية التوضيح هذه، ليس فقط طابع “التحديد” و”التعريف”، بل أيضا، وهذا هو المهم، طابع المراجعة والتصحيح، ومن هنا تصبح عملية تحديد المفهوم، عملية إغناء لا عملية تفقير”.

 

إن النقلة التعريفية لمفهوم اليسار تأتي لمساءلة الطروحات النظرية والأساليب النضالية والأنماط التنظيمية التي تغلف أبجديات اشتغال اليسار خصوصا إذا ما استحضرنا أولية التحول القيمي وارتباطه كليا بالتفاعلات العلائقية المتوغلة في صلب البنية المجتمعية من تصورات وتمثلات وأفكار عليا تهيكل لذلك النسق، وهذا ما أشار إليه عالم الاجتماع الأمريكي “بارسون ” في كتابه “نحو نظرية عامة للفعل “.

 

بمعنى أن أي ثقافة أو أيديولوجيا حسب ما جاءت في سياق كتابات المفكر السوسيولوجي “محمد جسوس”، “لن يكون لها وقع وفعالية تذكر إلا إذا اتسمت بالتماسك بين مختلف أجزائها، أي تماسك بين مختلف القيم والمعتقدات والرموز والمعايير وبين الأنساق العامة والأنساق الفرعية وبين المحتويات القيمية والمعرفية والرمزية والاجتماعية والانفعالية في إطار ما يسمى “بنظرية التماسك”((Dissonance theory؛ التي تتفرع منها إذا ما أثبتت صحتها ما يسمى «نظرية الانتقاء”، حيث تؤكد هذه النظرية أن كل نسق ثقافي له منطق داخلي خاص به يجعله يتقبل بسهولة تامة بعض الأفكار ويقاوم الأخرى انطلاقا من مدى تجانسها مع هيكله العام”.

 

اليسار على اعتبار أنه موضوعنا جاء كحل ابتداعي أو تحصيل حاصل لمآلات هموم وهواجس الشعوب، كبداية إعلان عن مقاومة أو مجابهة ضمنية عن الإيديولوجيات السائدة، أي بالمفهوم الغرامشي مجابهة الهيمنة الإيديولوجية للطبقة السائدة، عبر الحاجة إلى ما أسماه “الكتلة التاريخية” أي الإقرار التوافقي الجمعي حول التحرر من ويلات التبعية الاقتصادية والسياسية والفكرية والتحرر من الاستلابات التي أذكتها هذه الطغمة المافيوزية، وأن استكمال هذا المطلب إلا بتحقيق توازنات اجتماعية عبر التوزيع العادل للثروات.

 

هنا يأتي التأصيل التاريخي لليسار في أوروبا وإن كان تمأسس وتمظهر سياسيا واجتماعيا على حساب ما هو ثقافي، وذلك من تواجد اليسار كمكون سياسي على مستوى هيكلة المؤسسات البرلمانية الأوروبية وأن صدف التموقع من داخل التصميم الهندسي للبناية المؤسساتية التشريعية، وذلك بالجلوس على يسار رؤساء البرلمانات كانت لتكون كافية في نظر العديد لتلتصق تسمية اليسار بهذا التنظيم السياسي.

 

لكن سؤال إطلاقية تسمية “اليسار” هل فعلا جاءت بحكم الموقع في البرلمان وهنا قد أستشف نوع من الاعتباطبية والارتجالية في التسمية، أم أن صيغة التمثيلية النيابية باسم الشعب استوجبت إيصال آهات البروليتاريا والقوى الكادحة، وأن براديغم القفز على منطق الخضوع والاستبداد والاستغلال والاستلاب خصوصا في ظل ارتكان الكنيسة الأوربية وانحيازها مع صف القوى المالكة لوسائل الإنتاج والمتمثل في مكون اليمين كان هو العامل الذي أعطى لليسار تلك المشروعية في التسمية؟

 

     على أي يبقى التساؤل مشروعا إلى حد ما وفق ما تستوعبه مسوغات السياق المرحلي آنذاك، وأن استشراف إمكانية الإجابة عليه تنطلق بالأساس من تلازمية المحددين معا في الآن نفسه.

 

خصوصا وأن الإنسان الأوربي في تلك الفترة أصبح يعي جيدا أنه مدعو إلى أن يتحرر من ارهاصات ذلك الوجود التقليداني المبني على مضامين الفكر الكنسي المتكلس والسياسات الطفيلية للإقطاعيات الموروثة، ليجد لنفسه توجها جديدا يحدد له طبيعة التاريخ وحركته، بمنطق يضمن حركية مجتمعية أكثر حداثة تقوم على مقومات ومفاهيم ونظم اجتماعية واقتصادية وسياسية جديدة تقطع مع كل ما هو ماضوي، استمدت ديناميتها من دراسات موضوعية وعلمية للواقع المعاش وفق ما يتيحه من إمكانات ومتغيرات اجتماعية حتى لا يقع في الأخير فريسة لرومانطقية صرفة أو حتى في دوامة من التبشير والتنظير المستفحل.

 

 

 

هنا تتمأسس إشكالية اليسار بالمغرب هل ياترى كحمولة من الشعائر والمزايدات والعيش على الذاكرة ونضالات الأمس أم أن اليسار يتجاوز هذه المضامين التبشيرية إن صح هذا التوصيف إلى أفق مقارعة أفكار وايديولوجيا ومقتربات لها القدرة على ممارسة الموضوعية والعلمية باعتباره يسار المواطنة ويسار الجماهير المواطناتية ويسار نبضات وطموحات المتعطشين للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية؟

 

وتستحضرني في هذا الصدد مقولة للينين حول وتصوراته البنائية للمعرفة التي يعتبرها ” أنها لا تظل عندنا حرفا ميتا أو جملة شائعة ولنعترف بأن هذا كثيرا ما يحدث لنا؛ أن نعني بأن تتغلل المعرفة حقا في ذهننا، وأن تصبح جزءا لا يتجزأ من حياتنا، بصورة مليئة وفعلية”، بمعنى أن استشراف أي  عملية تدبيرية للشأن السياسي العام  تحتم على يساريي المرحلة أن لا يبقوا  محصورين في خندق من ركام المعارف العبارات والشعارات والمفاهيم السطحية والتمنيات وردود فعل  يتم ترديدها بصورة رتيبة وهلامية في محطات متقطعة وتشخيصات ومواقف لا تأخذ بعين الاعتبار قوتهم ومحدودية تلك القوة ، بل يتوجب بدل  ذلك إلى التفكير في أدوات بحثية و استقصائية وعملية لتطلعات وأولويات الجماهير.

 

كما أن من الأبعاد التي طبعت اليسار هو البعد الاقتصادي في من يملك وسائل الإنتاج أو من لا يملك، وهذا ما اعتبره فريدريك انجلز السبب في ” النتاج المباشر للاشتراكية الحديثة في جوهرها من جهة واحدة لوعي التناحرات الطبقية القائمة في المجتمع بين الملاكين وغير الملاكين، الرأسماليين والعمال المأجورين، ومن جهة ثانية لوعي الفوضى القائمة في الإنتاج”، مما شكلت ضرورة تجاوز هذه التفاوتات الطبقية كمطلب وكمقتضى برنامجيا في أدبيات اشتغال اليسار.

 

ومن المحددات للصياغة المفاهيمية لليسار كذلك نجد البعد الايديولوجي والتي يتحدد حسب محمد عابد الجابري ” في طبيعة النظرة الميتافيزيقة للكون، النظرة الدينية (اليمين)، والنظرة المادية الموسومة بالعلمية (اليسار). وبالارتباط مع هذين البعدين ومع البعد الايديولوجي بصفة خاصة ظهر مرادفان أو رادفان لمصطلح يسار/يمين هو مصطلح تقدمي/رجعي، فأصبحت التقدمية سمة لليسار والرجعية سمة لليمين. وحيثما يكون البعد الاقتصادي في التصنيف ضعيفا أو منعدما كان البعد الايديولوجي يقوم مقامه. هكذا غدا التقدمي هو المتحرر دينيا، والرجعي هو المتمسك بالدين فصار التقدمي بهذا المعنى يساريا حتى ولو لم يكن من صفوف الكادحين، وصار الرجعي بهذا المعنى أيضا يمينيا، حتى ولو لم يكن من صفوف المستضعفين”.

 

لعل ما يعطي لهذين البعدين زخما دلاليا أوسع هو تدويل اليسار والتصاقه بالحقبة السوفياتية السابقة، وارتباط اليمين بالغرب الرأسمالي، بحيث ظل اليسار في ضوء هذا البعد مقرونا بمشروع النمط الدولتي السوفياتي ,وحتى إذا ما استحضرنا متن خطاب ماركس العلمي فكان الرجل  ملتزما نسبيا بمستلزمات الوضعية الطبقية والمستوى التصنيعي في البنية الاقتصادية الأوربية في القرن التاسع عشر وأن قانون الاستغلال ومراكمة الثروة والرأسمال وتطور الصناعة كما أفرده ماركس في تحليلاته ممكن قد يرفع من منسوب التفاوتات الطبقية واستفحال هامش الفقر النسبي للطبقة المتوسطة كبورجوازية صغيرة والتحاقها بجحافل البروليتاريا ، بمعنى أن اليسار لم يكن ملتصقا بخصوصيات الرقعة الجغرافيا الداخلية التي تلازمه، خصوصا عندما يتم تغييب إمكانية التنزيل على الواقع الاقتصادي الاجتماعي بصيغة الملاءمة ومنطق إنضاج الشروط المادية تقتضي مجتمعا مصنعا منقسما على نفسه إلى مالكين لوسائل الإنتاج وإلى عمال يدخلون ضمن أدوات الإنتاج وتقتضي تنظيمات عمالية نقابية حقيقية تكون منصهرة مع تطلعات طبقة عمالية واعية بدورها كطبقة طليعية.

 

إذن إن الانفصال بين الحركة العاملة والاشتراكية حسب لينين” قد أدى إلى ضعفهما وتخلفهما معا، بحيث أن المذاهب الاشتراكية التي لم تنصهر مع النضال العمالي قد ظلت بكل بساطة طوبويات، وتمنيات نقية دون تأثير في الحياة الواقعية؛ وأن الحركة العاملة قد ظلت إذن متمحورة على تفاصيل، مجزأة، ولم تكتسب أهمية سياسية ولم تستضيء بنور العلم الطليعي لزمانها”.

 

وبالتالي أرجحية النضال السياسي لليسار يبقى رهينا بما يمتلك هذا المنتظم الحزبي من آليات التأثير والاستقطاب الشعبي إذا ما كانت حمولة الخطاب تحمل في عمق شرايينه أبعادا واقعية وعقلانية وبراغماتية تكون خالية من المثالية والطوباوية المقيتة.

 

 

 

 باحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري بجامعة محمد الأول بوجدة.  

 

 

 

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)