وهم الحق في المعلومة

إن مخيلة المغربي الواسعة في تفسير وفك طلاسم ما يستجد من أحداث، وهوسه باستدعاء نظريات غريبة من قبيل تدخل الماسونية والأرواح الشريرة… في ترتيب الكثير من الوقائع، قد يجد جزء كبيرا من تفسيره في حجم الغموض والتكتم الذي يلف تدبير مشهدنا السياسي وسياساتنا العمومية، فالحد الفاصل بين العادي حيث تكون المعلومة حق والسري والسري للغاية مجرد خيط رفيع، وعليه فالانتقال من وضع لآخر لا تحكمه أية قواعد، ولا يخضع لواجب التبرير.
في ظل هكذا وضع لا غرابة أن تصعد أسهم المنجمين، ممن يستغل حاجة الناس وتعطشهم للمعلومة بغض النظر عن مصداقيتها، وممن يدعون وصلا بليلى (مصدر حكومي، مصدر رسمي، مصدر مطلع…)، والتي تأبى إلا أن تتفضل بتبليغهم دون سواهم بالحقيقة الكاملة، وكل ما طالت مدة الصمت الرسمي انتعش هذا النوع من التجارة أكثر فأكثر بشكل لا يراعي أدنى القواعد المهنية والقيمية،.
تأتي هذه المقدمة في سياق الحديث عن التعديل الحكومي الذي أفرج عن مضمونه يوم التاسع من أكتوبر، إذ طيلة أسابيع غابت المعلومة حتى العادية منها، و كان على المواطن المغربي أن يعيش تحت رحمة الإشاعات وما قيل عنها تسريبات، على أمل أن تسعفه في رسم سيناريوهات شكل الحكومة المقبلة، لدرجة تظنك أمام لحظة فارقة في تاريخ البلد أو عملية استخباراتية على درجة كبيرة من التعقيد والسرية، لا أمام ممارسة سياسية عادية من حق المواطن سواء أكان مسيسا أو غير مسيس أن يواكب تفاصيلها من زاوية المتلقي فقط أو من زاوية المتفاعل.
أن تخالجك مشاعر الغيرة والتحسر أمر مبرر، خاصة وأنت تطالع أخبار أحداث تقع في دول أخرى أكثر مفصلية وأهمية، كما هو الشأن بالنسبة للاستحقاقات البرلمانية والرئاسية التونسية، وإجراءات مساءلة ترامب من قبل مجلس النواب إثر اتهامات له بسوء استخدام سلطاته، وذلك في محاولة لعزله، وهو لا شك حدث على درجة كبيرة من الحساسية في دولة تقود العالم.
وعلى أمل أن ننال يوما شرف صفة المواطن بما تحمله من دلالات، فلنا أن نتساءل كيف تحولت المعلومة من حق ومحرك لتجويد السياسات العمومية وإضفاء الفعالية على مسار اتخاذ القرارات إلى خطيئة مهددة للمصلحة الجماعية حسب تصور من يدير شؤوننا العامة.
إن المؤكد أن السيد رئيس الحكومة قد استوعب الدرس جيدا عندما عمد إلى تفادي تكرار خطإ سلفه السيد عبد الإلاه بنكيران الذي نهج سياسة أكثر انفتاحا على الرأي العام فيما يخص تدبير مشاورات تشكيل حكومته الثانية (والتي كانت لربما في نظر خصومه وحلفائه إحدى الأسباب التي قادته إلى مقصلة الإعفاء)، وعمل بالمقابل برواية “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”، حتى وإن تعلق الأمر بما هو من صميم حوائجنا لا حوائجه.
جاء اليوم الموعود وكشف عفريت التعديل الحكومي عن وجهه (البشع بنظر الكثيرين)، وكانت المحصلة حكومة مقلصة بأربعة وعشرين وزيرا، ستة منهم وجوه جديدة لم تكن موجودة في النسخة الأولى للحكومة، مع جمع عدد من القطاعات الوزارية ضمن أقطاب، والاستغناء عن أخرى كما هو الشأن بالنسبة لقطاعي الشؤون العامة والحكامة وقطاع الاتصال.
لعل من غرائب الصدف أن يكون موظفوا قطاع الاتصال، الذين من المفترض أنهم يصنفون ضمن أبرز الفاعلين في مسلسل صناعة وتبليغ المعلومة الرسمية، ضحية لمعضلة لا تواصل الحكومة، وهذه المرة بخصوص مصيرهم ومصير مرفقهم العمومي، فقد غدرت المعلومة وتخلت حتى بأقرب منتسبيها، فالكل يسأل الكل، في مشهد حضرت فيه الكثير من الأسئلة وغابت عنه كل الأجوبة.
لربما تكون المرة الأولى حيث يشعر فيها هؤلاء بالغربة، فمرفقهم العمومي الذي احتضنهم لسنوات ما عاد ينتمي إليهم ولا هم ينتمون إليه، وهو شعور يدفع بالكثيرين للغوص مرة أخرى في بحر تخيل الحيثيات والمآلات، والتي تلامس الامنطق أحيانا كثيرة، ويختلط فيها الموضوعي بالمصلحة الشخصية، فهؤلاء يرجعون حذف قطاعهم لمؤامرة قادها هذا الشخص أو ذاك الحزب ممن كانوا يتربصون به شرا، وهؤلاء يحملون المسؤولية لأياد خفية، وآخرون توقفوا عند استعادة ذكريات الماضي إذ عاد بهم الحنين لسنوات الزمن الجميل حيث كان القطاع “همة وشان” …
لا يتوقف الأمر عند تشخيص ملابسات إعدام القطاع بل يمتد لوضع تصورات حول مآل الحال، فهناك من يعتقد باستحالة الاستغناء عن قطاع حيوي ومعمر بهذه السهولة، وبالتالي فلا مناص من إحداث مندوبية وزارية تحفظ للمرفق ما تبقى من هيبته وتحفظ للموظفين مصالحهم، وهناك من هو مقتنع بفرضية تفريق دم القطاع من خلال إلحاق مديرياته بقطاعات وزارية أخرى، بينما يؤكد آخرون على ضرورة تقبل حقيقة وفاة “المرحوم” وأن إكرام الميت دفنه والترحم عليه، والنتيجة أن اللجوء لآلية إعادة الانتشار أمر لا مفر منه.
بحكم هذا التعاطي مع حق المواطن في المعلومة فإن الأكيد أن مخيلة المغاربة ستستمر في نسج حكايات وحكايات قد تحضر فيها الكثير من الطرافة بل وحتى الغرابة ما دامت المعلومة الرسمية الموثوقة التي تسهم في الحد من اتساع رقعة اللامعلومة غائبة.
إن من نتائج هذا الشح الرسمي في الكشف عن المعلومة أن المواطن المغربي أضحى لا يجد غضاضة في تقبل فكرة تدخل مخلوقات فضائية في صناعة قرار ما على تقبل فكرة وجود مسوغات موضوعية تكسي عمقا استراتيجيا، فهوة الثقة تزداد اتساعا يوما بعد يوم في ظل تواجد حكومات ومسؤولين ينظرون للتواصل ترفا أو تهديدا لمصالح قيل عنها زورا أنها مصالح عامة ومصالح عليا.

محمد شنيفخ

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)