القضية الأولى المؤجلة

مثيرة للعجب حالة الاستنكار والعتاب على الزعماء العرب بسبب مشاركتهم في ورشة المنامة -ولو بتمثيل منخفض في غالبيته- التي تعرض الشق الاقتصادي لصفقة القرن تحت عنوان: السلام من أجل الازدهار، هذا المشروع الترمبي لتصفية القضية الفلسطينية وانهاء الصراع العربي الإسرائيلي.

ومرجع العجب هو ما دأب عليه هؤلاء من تنفيذ كل الأجندات التي تملى عليهم، فهؤلاء هم أنفسهم الذين لا يخجلهم الاصطفاف مع اعدائهم ضد مصالح بلدانهم، فلماذا يُعتقد أنهم قد يتخذون موقفا مغايرا والشأن يخص دولة اخرى حتى مع استحضار رمزيتها ومكانتها في العقل الجمعي العربي والإسلامي.

الحديث عن المبررات التي ساقتها الدول المشاركة والمحتضنة والممولة لهذا الهراء الجديد لن تستقيم إذا علمنا أن الفلسطينيين المعنيين الأوائل بهذا الحدث توحدوا على مقاطعته واعتباره مخرجا لتصفية حقهم في الأرض والاستقلال، وهو الأمر المثير حقا ان يجتمع الفرقاء هناك بتاريخ خلافاتهم وفرقتهم على رأي موحد بشأن عرض ترامب، هذا عدا أن العديد من الدول لم تهتم أصلا بشرح وتبرير موقفها وقرار مشاركتها كما فعل المغرب مثلا.

عودة قضية الفلسطينية للواجهة بسبب ورشة المنامة، بعد غياب يرجع لاعتبارات تتعلق بالشؤون الداخلية لجيرانها التي فاقت فيها الأزمات ما يحدث في فلسطين نفسها، يعيد النقاش حول هذه القضية التي ظلت تستعمل كمغناطيس جذب يحقق الحشد والالتفاف حول تيارات سياسية معينة ظلت تستعمل هذه الكلمة المفتاح في كل فعالياتها، مقاومة الاحتلال ورفض التطبيع وتحرير القدس شعارات كانت حاضرة في الخطابات السياسية كوسيلة تلتف على الوعي وتغيبه لصالح عواطف هائجة، ورجالات السياسة الذين كانوا يلاقون جماهيرهم متوشحين بالكوفية بمناسبة وبدونها مثال واضح على ذلك، هؤلاء الذين لم يمنحوا طوال مسيراتهم لفلسطين شيئا غير استعمالها جواز عبور لقلوب البسطاء من ذوي حسن الظن، حتى أصبح كل تيار يطمع في السلطة يقدم نفسه على انه حاضنة القضية وصوتها ونبضها.

هذا الأمر انعكس حتما على الاهتمام والتعاطف الشعبي الذي يبدو انه يتراجع شيئا فشيئا، ويرجع الأمر غالبا لتحول القضية الفلسطينية لمجرد لازمات خطابية يسعى بها مستعملوها لجذب المؤيدين سواء تعلق الأمر بالتيارات السياسية أو الجماعات المسلحة التي لا تخلو بيانتها هي أيضا من الإشارة لفلسطين، في الوقت الذي لم يسجل أبدا أنها وجهت عملياتها ضد محتليها.

 

هكذا نتج تحول اهتمام الناس عن هذه القضية بوعيهم بأنهم ضحية خدعة تستهدف الوصول لدعمهم واصواتهم وتعاطفهم فقط.

 

السبب الثاني هو تحول البوصلة للقضايا الوطنية نتيجة الإدراك المتزايد بكون المواطن منزوع الحق في بلده لا يمكنه أن يكون بأي شكل من الأشكال فاعلا في قضية دولية، وأنه مادام مكتوم الصوت فاقدا للإرادة فلا يمكن أن ينتبه المنتظم الدولي له أو يعير أهمية لرفضه أو موافقته، ثم ما أبانت عليه موجة الربيع العربي من حقيقة الأنظمة القمعية التي فاقت في أساليب تصديها للثورات ما أجرمه المحتلون خلال عقود (سوريا ومصر نموذجين)، حقد أسود أبانت عليه الأنظمة والجيوش ’’الوطنية‘‘ بلغت حد القتل بأنواع الأسلحة المحرمة والتهجير والتغيير الديمغرافي، أمر صارت معه جرائم الاحتلال تبدو أكثر رحمة وتقبلا.

هكذا صار الكثيرون يعقدون مقارنة بين ظروف عيش الفلسطينيين داخل دولة الاحتلال وبين ما يقع في بلدانهم، خاصة مع انتشار الأرقام الإحصائية التي تضع فلسطين في مراتب متقدمة دائما على جاراتها العربية، الأمر الذي استدعى في أذهان الناس إعادة ترتيب الأولويات. ساهم أيضا في هذا التراجع النقاش الدائر حول تصنيف القضية بين من يعتبرها قضية قومية وطنية أو إنسانية أو صراع ديني بحت يفتح الباب على موجات جديدة من الحروب الدينية.

وإن كان من نافلة القول بكون القضية الفلسطينية لن تجد طريقها للحل النهائي دون الإقرار بالحقوق وإعادتها لأهلها، فإن من الواجب أيضا التذكير بأن نفس الشيء ينطبق على الأوضاع الداخلية لبلداننا المعطوبة، وأن موجات الثورات والانتفاضات لن تهدأ حتى يستعيد المواطنون فيها حقوقهم الأساسية على قاعدة من القانون لا تستثني ولا تحابي أحدا، وريثما يكون ذلك ستبقى فلسطين -رغم انحسار الاهتمام مرحليا- القضية الأولى نعم.. لكن المؤجلة أيضا إلى حين.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)