سامح درويش يكتب: اليزيد خرباش: رياض العاشقين .. أو صناعة البهجة

 

سامح درويش/ شاعر مغربي

 

مرة أخرى يعبر اليزيد خرباش عن وفائه لاختياراته الجمالية التي ظلت ترافق تجربته التشكيلية الغنية، تلك الاختيارات التي تعمقت مع الاشتغال الفني المتواصل بدون انقطاع، حتى وكأن الأمر قد أمسى بالنسبة لهذا الفنان المتفرد والمتعدد يشبه أداء شعيرة بكامل الجوارح، وتأكد لكل من يعرف خرباش اليزيد عن قرب أنه يتنفس من التشكيل، وأن نبضات قلبه التي أنهكها الاعتكاف الفني إنما يصنعها بيديه في  محرابه / مشغله كل وقت وحين .. تلك الاختيارات الفنية المتمثلة أساسا في :

 

أولا: الجوهر الشعري الذي يكاد يكون إحدى البنيات الثابتة في تجربته التشكيلية، إذ يتلون هذا التجلي الشعري بلون كل مرحلة تشكيلية يمر منها الفنان اليزيد خرباش، تبعا لمادة الاشتغال و الهندسة الجمالية لكل عمل تشكيلي، ففي مختلف محطاته الفنية  بدءا من ” المعلقات” مرورا بـــ” حين تتحول النار أشعارا” و “الحلم الأزرق”، وصولا إلى “الروض العاطر” يمكن للمتلقي أن يستنشق عبق الشعر بصريا، ويكتشف أن هذا الفنان هو بهوية شعرية واحدة تتجسد في تجليات فنية متعددة، وأنه من هذا العمق الشعري يخلق لنفسه ملاذات جمالية متنوعة ومتجددة .

 

ثانيا: تقنية الاسترجاع و الاستعادة  في تجربة اليزيد خرباش تتجاوز حدودها التقنية  في اختيار مادة الاشتغال إلى جعلها بنية ثابتة في التصور الجمالي، حيث يعمد الفنان باستمرار إلى توظيف المواد والمتلاشيات والبقايا والأشياء التي استنفذت صلاحياتها في الحياة  وفقدت وظائفها في الوجود ليمنحها حيوات جديدة من خلال منحها وظائف فنية مستجدة في بناء العمل التشكيلي، فنجده دائم الهوس بالتقاط وجمع مواد لم يعد أحد في حاجة إليها إلى حدود السخرية أحيانا، فتراه يجمع ما يرميه البحر من بقايا، وما يفضل عن الولائم من عظام، وما يتركه العمال في ورشة للبناء، وما تقذفه الطبيعة  من عناصر ميتة في دورتها المتجددة، وكل ما يصادفه هنا وهناك من مواد وبقايا من هذا القبيل، ليكسبها فيما بعد قيمتها الجديدة في عمل فني ينبض بالحياة.

 

ثالثا: الاشتغال بالموضوعة والنسق، حيث ينذر أن تجد عملا طائشا لليزيد خرباش خارج تيمة ما، فهو يختار موضوع اشتغاله في كل مرحلة من صلب ديناميته التشكيلية التي لا تهدأ، أي من صميم السيرورة الإبداعية التي تحقق تراكمها الفني الخاص من تفاعلات خبرة التناول والإنجاز مع الوعي الجمالي المتحصل من مسار تشكيلي وإبداعي زاخر ومتنوع .لذلك فإن معارض اليزيد خرباش يربط بين أعمالها في كل مرة خيط فني ناظم يحقق درجة متقدمة من التجانس  والتناغم بين الأعمال المقدمة في كل معرض، بل إن نسقية التجربة الفنية لديه تبرز ذلك الخيط الرفيع بين محطاته التشكيلية كلها من خلال هذا الحضور الثابت لهذه الاختيارات الجمالية الثلاثة.

 

فلنتأمل أعمال الفنان اليزيد خرباش في محطة معرضه ” رياض العاشقين” ( أبريل 2019 ) ، لنكتشف ظلال المحطات والمعارض السابقة  بشكل لا يطمس ملامح الجدة والتوقد الإبداعي في أعمال المعرض الجديد، ويؤكد أن فنان “رياض العاشقين” لا يكرر نفسه بل يجددها باستمرار، فهو مثل فينيق ينهض من رماده الفني المرة تلو المرة  ليحلق في سماء الإبداع بشكل مبهر ومتوهج.. وهو هنا يربط بين الذات المبدعة في حداثتها وتجليها الإنساني، وبين التمثل الفني للتراث، فنجده يلحق العاشقين بالصالحين، ويفتح أمام المتلقي رياضا من عبق العشق الصوفي الخالص، ونجده يبدع مصائر جديدة للموجودات ويقدح من دلالة الفناء والموت دلالة البقاء والحياة ، ونجده يحافظ على اختيار مبدأ الاستعادة والاسترجاع باستعمال سدادات قنينات المشروبات بحساسية فنية عالية  وتحويلها إلى حدائق من الفرحة والبهجة بألوانها الناضحة بالحيوية والحياة، غير أن الإضافة الفنية لأعمال اليزيد خرباش في ” رياض العاشقين” تعبر عن نفسها هذه المرة بواسطة جعل هذه الألوان بالذات تصرخ في وجهك من شدة البهجة والحبور، وبواسطة الميل نحو حجم أكبر للعمل الفني بمقدار فتْح ذراعين للعناق وأكثر، و عبر اختيار مبدأ التوازن بين الألوان والأشكال والحركات والرموز التشكيلية، ذلك التوازن الذي يمنح اللوحة/ المعلقة رشاقتها القصوى التي تصبح في النهاية قناة بصرية  لنقل دبدبات البهجة من العمل الفني إلى ذات المتلقي .. كما لو أن اليزيد خرباش يريد أن يقول للعالم : أنا هنا لأصنع بهجتك ! .

 

كلمة نادي الضفادع :

 

يفتتح ” نادي الضفادع ” بوجدة برنامجه لسنة 2019  بمعرض ” رياض العاشقين” للفنان المتفرد والمتعدد اليزيد خرباش، هذا  المعرض الذي يعكس بوضوح جانبا من الرؤية الفنية التي يتبناها النادي في فتح آفاق الابتكار والتحديث أمام حقل التشكيل بجهة الشرق خاصة ، ولعل أن يجد المتلقي في تجربة  صاحب هذه الرياض نموذجا للمثابرة والإبداع المتجدد الذي يشرف ليس نادي الضفادع وحده بل يشرف مدينة وجدة ” عاصمة الثقافة العربية لسنة 2018 ” ، ويشرف المغرب كله .. فمرحبا بكل من ستتاح له فرصة الاستمتاع بالتجول في ” رياض  العاشقين” واستنشاق ما يفوح منها من دهشة و فرحة وبهجة وجمال.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)