شهادة مؤثرة من سعدي عن رائد الدراسات الأمازيغية الراحل حسن بنعقية

كتب، محمد سعدي، أستاذ حقوق الانسان بجامعة محمد الأول بوجدة
رحل عنا منذ يومين أستاذي حسن بنعقية الذي ترك بصمات لا تنسى في مجال تدريس اللغة والثقافة الأمازيغية في مختلف أبعادها بالجامعة المغربية وبالخصوص بجامعة محمد الأول بوجدة والناظور. برحيله فقدت الجامعة المغربية علما من الأعلام المضيئة للدراسات الأمازيغية ، فقد كان باحثا وشاعرا وروائيا ولسنيا ، استوعب واكتسب من خلال مساره الدراسي والبحثي بفرنسا وإسبانيا فكرا موسوعيا عقلانيا جعله يجيد التنقل بسلاسة بين معارف واختصاصات ولغات متعددة . وكان الفقيد إنسان المواقف والدفاع المبدئي عن الهوية الأمازيغية ولم يبخل بمجهوداته وبذل الغالي والنفيس في سبيل الإسهام في النهوض بقضايا الهوية الامازيغية.

محمد سعدي
محمد سعدي

تعرفت على الأستاذ حسن بنعقية عام 2006 وجمعتني معه مناوشات فكرية حادة أحيانا ولكنها ممتعة وذلك خلال لقاءات فكرية وندوات ، كان النقاش بيننا يهم أساسا جدل مفهوم الهوية الأمازيغية في سياق تحولات عدة وسبل حفظ وإحياء التعبيرات الهوياتية الأمازيغية المختلفة . إحدى القضايا التي استنزفت طاقات الأستاذ حسن بنعاقية هي الحفر الأركيولوجي المعرفي في عقدة الإرث الشفهي لدى الأمازيغ وغياب منتوج فكري وفني مكتوب باللغة الأمازيغية ونزوع الفلاسفة والمفكرين والأدباء الأمازيغ للكتابة بالإغريقية واللاتينية، وليس غريبا أن يكون طغيان الشفهي قد منح قدرة عجيبة للأمازيع على إنتاج ترسيمات للحكي والتخيل والمجاز والأحجية وجعلهم يعيشون على متلازمة الخوف من نسيان الجذور (قد تكون رواية الحمار الذهبي لأبوليوس أول رواية في تاريخ الإنسانية كما يمكن اعتبار الكاتبة طاووس عمروش، أول روائية في شمال أفريقيا ). لهذا كان رحمه الله متتبعا وملما بشكل دقيق بتاريخ الفكر الفلسفي العقلاني للأمازيغ في العهد الإغريقي والروماني اللاتيني، وقد قضى سنوات وهو يحاول أن يبحث ليكشف عن خيوط ناظمة بين هذا الفكر والثقافة الأمازيغية وهذا على عكس ما هو متداول بكون هذا الفكر مجرد نتاج للثقافة الرومانية وانبهار للمفكرين الأمازيغ واستلابهم بثقافة روما. وكان ثمرة جهوده صدور كتاب ضخم وغني وهو تحت عنوان تاريخ فكر شمال أفريقيا.
له طقوسه وعاداته الخاصة في الكتابة وكان يحب النوم باكرا حتى يتمكن من أن ينعزل في الصباح الباكر حيث الصمت والسكون التام والإحساس بأنه خارج العالم ، واستمر في الالتزام بها النهج طوال حياته . وراء صرامته وجديته في محاضراته ونقاشاته يوجد إنسان يحب الحياة والهزل والضحك والسخرية من كل شيء ولا تفارق البسمة والبهجة محياه، كان حسن المعشر لكل الناس ويتسع قلبه للجميع ، من خصاله الهدوء وحسن الاستماع والتواضع والتواصل الجيد مع الباحثين والطلبة .
في 2010 أصبحت من جديد طالبا جامعيا وقمت بالتسجيل في مسلك الدراسات الأمازيغية بكلية الآداب بوجدة كانت لدي رغبة في التعرف والتعمق في كل ما يتعلق بالدراسات الأمازيغية خصوصا على مستوى التاريخ والأنتروبولوجيا وتعلم الكتابة بحرف تيفيناغ ، في البداية كنت متحمسا وداومت الحضور بانتظام ولكن الأمور لم تكن كما كنت أتوقع ولسنتين كاملتين من متابعة الدراسة عشت إحباطا مرا وأنا على وشك انهاء السنة الثانية للدخول في السنة النهائية وغادرت المسلك بلا رجعة وغير نادم على ذلك، لكن كان الأستاذ حسن بنعاقية بمثابة الترياق وإحدى النقاط المضيئة داخل هذا المسلك ، مع بعض الأساتذة الأخرين، كنت أتشوق لحضور دروسه حول الشعر الأمازيغي ، كانت حصصه بعد الزوال حيث يغلب الاسترخاء والغفوة على معظم الطلبة ، لكن كان لأستاذي حسن بنعقية أسلوبه الخاص الذي يجعل من المستحيل أن تشعر بالملل وسط المدرج الصغير ، كان نشيطا و يقضا ، يأتي كعادته خفيف الظل بأحذية رياضية ولباس بسيط غير رسمي ويتحرك طوال الحصة ويحوم كالنحلة بين الطلبة ويسألهم ويستفزهم ( بالمعنى الايجابي) ولا يجلس بتاتا على الكرسي ويجعل الجميع يشاركون في بناء الدرس أو يتفاعلون معه بدون شعور بالملل والرتابة.
أحد الأساتذة وكان قد اشتغل في مهام إدارية برئاسة جامعة محمد الأول كان يروي لي دائما أنه في عهد رئيس الجامعة السابق الأستاذ محمد الفارسي تغمده الله برحمته ،وهو من منطقة الريف أيضا، كان الأستاذ حسن بنعاقية يصر ويحرص في اجتماعات العمل الرسمية مع الرئيس أن يتحدث باللغة الأمازيغية ورغم أن بعض مستشاري الرئيس لم يكن يفهمونها وكانوا ينزعجون من ذلك إلا أن الاجتماع كان يمر في جو مريح يسوده الود وحسن التفاهم والبهجة .
خسارة كبيرة لا تعوض أن يرحل عنا وبشكل مبكر الأستاذ حسن بنعاقية ، لكن عزاؤه وعزاءنا أنه ترك وراءه جيلا من الباحثين الشباب ، ترك في قلوبهم حماسا وأثرا عميقا زرع فيهم حب الأمازيغية وأشعل جذوة الأيمان بقضية، وعليهم أن يكملوا ترسيم الطريق وأن يصنعوا ممرات تنفذ منها أنوار أمازيغية مضيئة.
وداعا وداعاً أيها الغالي وداعا، ولترقد روحك الطيبة في سلام وطمأنينة .

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)