في مثل هذا اليوم قبل 27 سنة قُتل ملك الراي العاطفي الشاب حسني

مزال كاين ليسبوار
الشاب حسني

 

عندما كان صوت رصاص الإرهاب يصدح في الجزائر، كان الشاب حسني شقرون المعروف بالشاب حسني يغني عن الحب والأمل، وعندما استقرت رصاصة غدر في رأس محمد بوضياف، رئيس المجلس الأعلى للدولة بالجزائر، كان الشاب حسني يغني للغرام وحرقة الفراق ويسجل أغنيته “نبغيك ماني هاني”. لم يتوقع ابن مدينة وهران أن الرصاص سيتجاهل رؤوس السياسين والمعارضين ليخترق حنجرته التي أبكت الملايين من شباب ومراهقي المنطقة المغاربية الذين خاب ظنهم في الحب. حسني غنى للحب وخيباته والأمل وغيابه، تحدى “الظلاميين” وخلق الفرح وسط الخراب، الآن بعد مرور ربع قرن على رحيله، لا يزال أمير الراي حيا بين عشاقه، حسني لم يمت ولكنه ترك الرومنسية يتيمة من بعده.

 

حسني شقرون الملقب بالشاب حسني على غرار مغنيي الراي الملقبين بكلمة “الشاب”، وهي كلمة تصف كل من يغني الراي بالجزائر كالشاب خالد والشاب مامي والشابة الزهوانية ويلازمهم هذا اللقب رغم كبر سنهم، غير أن حسني رحل عن العالم شابا بالفعل، عن عمر 26 سنة وفترة غناء لم تتجاوز السبع سنين لكنها كانت كافية لكي يتحكم الشاب حسني في الراي العاطفي ويتبعه ملايين الشباب المحطمين والغارقين في سوادوية العشرية السوداء بالجزائر. يوم 29 شتنبر 1994، ترجل الشاب حسني من سيارته بالقرب من بيته جالبا معه كرسيا متحركا من أجل أحد جيرانه المقعدين.

حياه ثلاث رجال منادين عليه، فاتجه حسني نحوهم بطيبته المعهودة ظنا منه أنهم معجبون اعتاد على تقاطرهم قرب جنبات بيته بحثا عن صورة أو أوتوغراف، صافحه الرجل الأول فيما عانقه الثاني مفرغا رصاصة في عنقه وأخرى في رأسه ولاذا بالفرار على متن سيارة مسروقة تاركين حسني جثة هامدة مدرجة بالدماء ظنا منهم انهم سيخرسونه للأبد. غداة الحادث، عنونت صحيفة lhumanité تقول: جاءت عملية اغتيال حسني أربعة أيام بعد اختطاف المغني القبائلي معطوب لوناس، في كلتا الواقعتين، المستهدف هو الشباب الجزائري.. هذا الشباب الذي ترغب الأصولية في إخضاعه وتكميم أفواهه. غادر حسني الحياة في ربيع العمر، ونعاه البسطاء أبناء الأحياء الشعبية ومراهقون تبعو أنفاسه وكلماته كأنه يغوص في أحاسيسهم ومشاعرهم ويلامس قلوبهم هم الذين كانوا يعيشون أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية في جنازة تعد من أكبر جنازات الفنانين في العالم.
سبع سنوات رومنسية في زمن الحرب

استطاع حسني في سبع سنوات أن يقدم ما لم يستطع الفنانون تقديمه طيلة سنين مديدة، اجتاح القلوب وقاوم الحرب والإرهاب بإحساسه وتحدى التهديدات من الجماعات الإرهابية بتصفيته، هذا هو حسني الذي ارتبط بأغاني السونتيمونتال (الأغاني العاطفية باللغة الفرنسية) ورددها الشباب من بعده. استلهم حسني أغانيه من واقعه المعاش ومن تجاربه العاطفية، فلامس المشاعر العاطفية لكل الشباب بدقة عالية وبالكثير من الغوص في التفاصيل. كان حسني يغني كأنه عايش كل تجارب الحب والحزن وكأن قلبه تعرض للتحطيم مرات عدة، ولم تكن أغانيه معزولة عن حياته الشخصية فقد أعاد غناء وقائع من حياته كما غنى عن علاقته بابنه الوحيد عبد الله.

 

من أشهر أغانيه، طال غيابك يا غزالي ومزال كاين ليسبوار (لا زال هناك أمل) ومتبكيش دا مكتوبي إضافة لأغاني أخرى رسخت ذاكرة جيل التسعينات ويصعب إدراجها كلها، فقد ترك حسني أزيد من 300 أغنية تدور حول فلك الهجر والخيبة والحب والأمل والفقر. وقد بيعت ملايين النسخ من ألبوماته كألبوم البيضا مون أمور (البيضاء حبيبتي) والبراكة والعديد من الألبومات الأخرى التي ساهمت في حياة شباب التسعينات ليتجاوزوا مرارة العيش وينسوا يوميات القتل والإرهاب.

 

من “البراكة” إلى 5 جويلي

ولد حسني بحي قمبيطة في مدينة وهران معقل الراي، لأسرة من خمس أخوة ولأب حداد وأم ربة بيت في فاتح فبراير 1968، انقطع عن التمدرس بسبب عشقه لكرة القدم رغم حلم ابيه بأن يصير ابنه طبيبا وانخرط بالفئات السنية لنادي وهران. اعتقد والده أن رفاق السوء كانوا سببا في تراجع مستوى ابنه الدراسي، متجاهلا بروز نزعة موسيقية في ابنه الذي كان يقضي جل وقته بين الملعب وترديد أغاني الراي الشهيرة آنذاك. اعتزل الشاب حسني كرة القدم مبكرا بعد إصابة أقعدته في المستشفى لأسابيع طويلة وهناك كان يسمع أغاني فريد الأطرش وبعد خروجه ازداد وزنه وصعب عليه ممارسة كرة القدم ليتحول حلمه نحو الفن عوض الكرة.

بدأ حسني في تنشيط حفلات موسيقية صغيرة وأعراس محلية رفقة فرقة محلية اسمها قادة ناوي، ذاع صيت الشاب حسني بسبب حسن أداءه وعذوبة صوته. في سن الثامنة عشر توصل حسني لاتفاق مع شركة انتاج محلية لتسجيل أول البوم غنائي له رفقة مغنية مغمورة آنذاك الشابة الزهوانية -ستصبح فيما بعد من أعمدة الراي الجزائري- حملت أولى أغانيهم عنوان “البراكة”، واعتبرت واحدة من أكثر أغاني الراي ايروتيكية بكلماتها الغير مألوفة والمثيرة. توالت نجاحات الشاب حسني بعد أن ركز على الأغاني الرومنسية، وهو النمط الذي ميز مساره الفني المتوج بـ150 ألبوما.

 

وكانت السهرة التي أحياها عندليب وهران سنة 1993 بملعب 5 جويلي علامة على بزوغ وتألق الشاب حسني، فقد حضر للحفل بالرغم من حضر التجوال أكثر من 150 ألف مشاهد ومكثوا في الملعب من غروب الشمس إلى بزوغها.

 

حسني.. ما زِلت في البال

والدتي، أصدقائي والحي الذي أسكن فيه أحسن من أمريكا بالنسبة لي

الشاب حسني

 

عانى حسني قيد حياته من قرحة الفراق.. فراق الزوجة والابن، وهذا ما زاد من عمق كلماته وجمال أغانيه التي تتعلق بحياته الشخصية ويقول في إحدى الأغاني: “محال نصبر على ولدي، بايت نبكي داك ما عندي، عولت الشيرة تهبلني”. وكان الشاب حسني وجها للمقاومة ضد الإرهاب، لذلك كان رأسه مطلوبا بين الجماعات الإرهابية رفقة عدة مغنيين اختارو الفرار لفرنسا على عكس حسني الذي اختار الحياة البسيطة والعيش بين دروب مدينته. رحل حسني عن الحياة لكنه لا يزال حيا بين قلوب عشاقه البسطاء ضحايا الحب وخدلان الأمل، غاب حسني وبقي إرثه الموسيقي للأبد يذكرنا بأن ليسبوار (الأمل) لا زال قائما، غاب حسني وترك محبيه يرددون أغنيته مزال سوفونيرك عند (لا تزال ذكرياتك عندي).

 

ايوب واوجا – الجزيرة

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)