الجزائر.. الشوارع والملاعب

الفرح الغامر التي يعم المغرب عقب كل انتصار يحققه المنتخب الكروي الجزائري ضمن منافسات كأس الأمم الإفريقية 2019 بمصر ظاهرة تستحق الوقوف والتساؤل، هذه المشاعر والمواقف التلقائية لم تكن يوما بهذا الوضوح والصدق والاندفاع، ولا عبَرت بهذا الجزم عن حجم المحبة والتقدير لهذا القسم من الجغرافيا والتاريخ.

هل يعود حرص المغاربة على تشجيع وتتبع محطات عبور الفريق الجزائري لمنطق الأقرب فالأقرب، خاصة بعض إقصاء الفريق الوطني؟ أم أنه خاص بهذا البلد الأكثر شبها والأقرب رحما، والذي غالبا ما يشتبه على الكثيرين الفصل بين شعبي البلدان لأنهما يشتركان نفس لون البشرة ونفس ’’قصوحية الراس‘‘ واللهجة المتقاربة كذلك، أم أن الأمر ضارب في العمق بحيث يلغي هذه الأسباب الصالحة للإسقاط على كل الحالات المماثلة، ليكون في حقيقته حنينا صادقا لذاك الأخ الذي أبعدته أسباب واهية، هو الحنين لاستعادة قربه، وللركون له ساعات الفرح والشقاء، الحنين لمد 1500 كيلومتر من المحبة والتعاون بدلا عن الأسلاك الشائكة والجنود المسلحين.

تاريخ العلاقات بين البلدين لا يميزه سوى المستوى الجامد من التراشقات السياسية التي بلغت مداها محدثة نوعا من الخلاف المزمن التي تعايش معه الطرفان، دون أن يفوتهما تحريك المياه الراكدة بين الفينة والأخرى بتصريحات تدعو لتفعيل آليات الحوار التي لم تُفعل يوما لأنها صدئت ربما من ركنتها الطويلة. هذه الدعوات لا يقصد بها سوى تسجيل المواقف وتحميل الطرف الآخر المسؤولية، وإلا فإن توافر الإرادة السياسية يجعل كل شيء ممكنا، وليس من مثال معاش أفضل من التحول الذي نشهده اليوم في الخليج العربي مثلا والذي يجعل إسرائيل صديقا تاريخيا وقطر عدوا شريرا.

المواقف الشعبية هذه دليل على أن الشعبين تجاوزا هذا الخلاف العقيم وأنهما أعلنا صراحة عدم احتكامهما لمن يدَعون تمثيلهما سياسيا، وانهما تجاوزا مرحلة الوصاية ونبذا اللائحة الجاهزة لتصنيف الأصدقاء والأعداء، وأصبحا يحتكمان لمرجعيتهما الخاصة القائمة أساسا على الود التاريخي، فحتى مع التسليم بوجود هذه القضايا الخلافية الكبرى المطبوعة بطابع الديمومة فهذا لا يمنع نشوء تعاون في القطاعات الأخرى ورفع القطيعة المفروضة على الشعبين. فمن يدري إذا ما سلَم جنرالات الجزائر مقاليد الحكم لمن يأتي به المسار الديمقراطي سلموا معه مفاتيح حل ذاك الصراع المزمن أيضا.

وربما لن تستطيع هذه المشاعر الطاغية أن تضغط باتجاه تغيير شيء في مصير العلاقات، خاصة وأن أمدها مرتبط بانتهاء مباريات هذه الكأس، لكنها على الأقل تضرب حجرا في البركة الراكدة يصحح معه الكثير من التصورات الخاطئة، بما يجعلها بزخمها الحالي تمهيدا واعدا لمستقبل علاقات أفضل.

استحضار الحراك الشعبي في الجزائر ربما يفسر بعضا من هذا التقدير النوعي نحو الجزائريين، ولا بد أنه لعب دورا في تصالح الضمائر والأفهام وإيفاء هذا الجار ما يستحق من احترام.

هكذا يمسي الجزائريون فرحين مبتهجين بنتائج منتخبهم، ويصبحون في ميدان الحراك حراسا على مسار ثورة تجاوزت العشرين أسبوعا وتمضي بثبات نحو خلق نموذج حقيقي من التغيير -أو هكذا نتمناه- ضمانته الأساسية استمرار الناس في التحرك والخروج فيما يبدو أنه موجة ثانية من الربيع العربي أكثر اتزانا، يحميها الشباب الذي يبدو منظما اكثر وبعيدا عن التقسيمات التقليدية في عالم السياسة، حتى إذا ساق حراك الجزائريين وصمودهم في الميادين ووعيهم بحيل وألاعيب الدوائر العميقة لهم وطنا بالحد الأقل لنقل من شروط المواطنة الكريمة لم يقبل جيرانهم أن يستثنيهم هذا التغيير؟

قد لا نستفيد شيئا من المستوى الجيد للأداء الذي ظهر به المنتخب الجزائري ولا حتى بانتزاعه الكأس غدا في لقاء النهاية، لكن في المقابل سيوجهنا حضور اسم الجزائر للانتباه اكثر لما يحدث من حراك في شوارعها، والذي لا بد أن يؤثر على ساحتنا بمنطق الجوار أو غيره.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)