الثورة الأخرى

 

“أنا كافرة” جاءت هذه الجملة في الإعلان الترويجي للوثائقي “في سبع سنين” الذي بثته قناة الجزيرة قبل أكثر من أسبوعين على لسان إحدى ضيفاته، بدت الجملة قاسية على المسمع، ربما لأنها من الطابوهات التي نتقبل وجودها في الظل والعتمة أو في أسوأ الأحوال على التلفاز مع إخفاء الملامح وتغيير نبرة الصوت، أما أن تأتي مباشرة بأسماء ووجوه حقيقية فقد بدت أكبر من القابلية لتقبلها. أو هذا على الأقل ما توحي به الانتقادات والهجوم المستمر الذي يتعرض له العمل.. فريقه وضيوفه.
يرصد وثائقي” في سبع سنين” التحولات العقائدية والفكرية في حياة نماذج من الشباب المصري الذي عايش ثورة 25 يناير2011 وما تلاها من تجاذبات بين جميع مكونات الساحة السياسية، والتي آلت لما نشاهده اليوم. اختار الوثائقي تقديم مسارين مختلفين لعدد من الشباب الناشط ضمن حركات سياسية إسلامية وثورية، تفرقا بهم نهاية وعبر السبع سنين التي تلت الثورة إما نحو التردد في الإيمان وإثارة السؤال الوجودي وصولا للأدرية أو الإلحاد، أو نحو التطرف وحمل السلاح ضمن جماعات توصم بالإرهاب. كرد فعل لما اعتبره الشباب صدمة وحالة من الخذلان وفقدان الثقة في الأشخاص والمؤسسات وحتى المسلمات.
العمل أثار ضجة ولغطا واسعا، وواجه كما كبيرا جدا من الانتقادات، مقالات ومواد فيديو وبرامج تلفزيونية. والأمر في هذه السطور لا يتعلق بعزم على التقييم أو النقد من أي زاوية لغياب القواعد العلمية المؤطرة لهذه الممارسة، ولا برغبة في الترويج له والقول بمصداقيته -لنفس السبب السابق- لكنه مرور كريم على رصد تباينات هذه الردود والانتقادات نفسها.
فالأمر العجيب أو لنقل الوقح أن الذين تصدروا للهجوم على هذا العمل هم أنفسهم المسؤولون المباشرون عن حدوث هذا الصراع في نفوس هذه العينة من الشباب التي قدمها الفيلم وغيرها كثير طبعا، وعن هذا المسار من التخبط الذي قادهم لتغير قناعاتهم المرحلية، باعتبارهم -أي المنتقدين- الجيل المنظر والمربي وصاحب الأيديولوجيات والممارسات التي تسببت في خذلان هؤلاء الشباب وفقدهم الثقة ودخولهم تحت تأثير شعور الهزيمة مرحلة مراجعات وتراجعات، لم يخرج أي من جيل المنظرين هذا مستشعرا الأسف ومعترفا بالمسؤولية الثابتة في حدوث هذا الشرخ وهذه الحرب النفسية وحالة الضياع. بل انتقلوا بأريحية لمتابعة دور الوصي على انتماءات الشباب وقناعاتهم واتهامهم بتبني فكرة الإلحاد هروبا فقط من الحدود والالتزامات التي تفرضها حالة الإيمان، أو باللجوء للعمل المسلح تغطية للفشل وإطلاقا لنزعة العنف التي تسكنهم.
كانت لغة الانتقاد عقيمة، وأحيانا كثيرة بالغة السوء، تتجلى خلالها بوضوح الأستاذية المتعالية التي ترمق الواقع من برجها شزرا، وتواصل ممارسة التنظير المقيت والمبالغة في التقريع وتجريم هؤلاء الشباب وأحيانا المبادرة فورا لنصب المشانق لهم وتوعدهم بالأسوأ.
من زاوية ثانية وبعيدا عن أساتذة التنظير سنجد شريحة أخرى من المنتقدين وهم الإعلاميون وأصحاب التخصص والمدافعون عن أطروحة أخلاقيات المهنة، وإن كان صعبا الحكم على أراءهم التقنية لأنهم أهل مكة وأدرى بها إلا أن المثير للاهتمام هنا أنها انتقدت -من جانب تقني دائما- الشيء وعكسه.
فمن جهة سنجد مقالات اتهمت العمل ومخرجه ومقدمه بالدعوة والتسويق للإلحاد، ويظهر ذلك حسب رأيهم في زوايا التصوير والاضاءة وانطباعات المقدم وطريقة تفاعله مع كلام ضيوفه الذين يقدمون أنفسهم كملحدين والأريحية والحميمية التي بدت في الأماكن التي اختيرت للتصوير وإجراء المقابلات، في المقابل تسود أجواء غير مريحة وباعثة على القلق والنفور عندما ينتقل البرنامج لمحاورة الشباب الذين حملوا السلاح وانظموا للحركات المقاتلة. إلى هنا كان ليبدو الأمر عاديا لولا أننا سنجد آراء أخرى لأناس ضمن التخصص دائما استنتجوا من نفس ظروف وتفاصيل تصوير العمل أن فريقه قام بالترويج أو التعاطف على أقل تقدير مع حملة السلاح عن طريق تقديمهم في وضعية قوة وسيطرة، حيث بدوا كأبطال يوحي كلامهم بالثقة والحسم. حتى أن الأمر وصل للتعليق على جلوس أحد ضيوف الوثائقي في مستوى أعلى من المقدم كدلالة على الخضوع والانصياع حسب رأيه.
هكذا لن نعرف في النهاية هل خدمت التقنيات التي صور بها الوثائقي الدعوة للإلحاد أم الانحياز للتطرف وتبريره؟ وهل عرض الحوار مع الشباب الإلحاد والتطرف كوجهات نظر مجردة أو كخلاصات جاهزة؟ وبالتالي سينتهي بحثنا في الانتقادات الموجهة للوثائقي ونحن نراوح قضيته الرئيسة بين من يتبنى طرح المؤامرة أو يستغل الفرصة للتراشق وتصفية الحسابات.
في الختام حري بالذكر أن هذه التجاذبات لا تخص الشباب في مصر فقط، بل تكاد تكون حالة عامة في الوطن العربي منذ انطلاق أحداث الربيع العربي، فيما يشبه ثورة اخرى جانبية تنضج ببطء ولا ترى سوى نتائجها، على أن احتواءها يكون بالبحث في الإجابات الصريحة والمقنعة وتوضيح المفارقات، أو الاعتراف ببساطة بعدم كفاءة الأشخاص والرؤى والأساليب، وفتح نقاش حقيقي لا يستثني جيل الشباب باعتبارهم المعني الرئيسي والمحرك الأساسي للتفاعلات على الساحة، وكذلك الطرف الذي يدفع الأثمان الباهظة، ومنها التحولات والصراعات النفسية والفكرية التي قد تلقي بهم إلى التفريط أو الإفراط. هذا على اعتبار أن الميعاد لم يفت بعد.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 5 )
  1. طه احمد :

    حفظك ربنا وبارك فيك طرحك دايما جميل ومقبول وواقعي وان شا الله يكون الاستمرار ديدنك لعل اثرا طيبا وحقا تحدثيه في الآخرين وتستفيد منه الأمة فلا تتقطعي بالكتابة فشخصيتك مقبولة والحمد لله.
    وأرجو ان تراعي كذلك شخصيات القراء وأنماطهم المختلفة لكي يكون أثرك اعظم في الجميع….
    ولعل وانا متاكد بان دورك مستقبلا سيكون أقوى من كثير من الكاتبات في عصرنا اصقلي قلمك بالاستمرار والله معك فاطمة الزهراء..

    0
  2. Mohammed :

    رأي في الصميم ، على مايبدو لي انك تكلمني على الموقع المصري بصفة خاصة والعربي بصفة عامة ، حين تحدثني بشكل خاص ، لم تذكر احداث ميدان التحرير بمصر وبنوده ولما جاء … ،
    في الاخير تقبلي مروري المتواضع واتمنى لك مسيرة موفقه باذن الله كل التوفيق والنجاح الدائم عزيزتي الناقدة

    0
  3. الحرني عائشة :

    أحسن ما قرأت هدا الصباح.وافتخر بك صديقتي استمرى وفقك الله ورعاك

    0
  4. أحمد :

    موهبة صاعدة ان شاء الله اتمنى ان تحافظي على هدا الحياد في التحليل والنقاش واتوقع ان تكوني اكبر من الصعوبات والاغراءات التي ستواجهينها في المستقبل القريب مهمتك ليست سهلة وقيمة موهبتك في شرف قلمك موفقة ان شاء الله.

    0
  5. sara pha :

    صديقتي أتمنى من الله ان يوفقكي افتخر بك واقول لكي مسير موقف فأنا أحببت ما كتبته حقنا أفتخر بكي موهبتكي ليست سهلة استمري ادعو من الله ان يوفقكي

    0

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)