راموس.. روح الفوز بقلب قائد أندلسي

كأن قدرهما يتقاطع في خطواته المجيدة والدرامية معا. رئيس ريال مدريد فلورينتينو بيريز كان قد جعل من استقدام سيرجيو راموس من اشبيلية واحدا من عناوين بعث تألق الفريق، وربح الرهان فعلا. عاشا معا ملاحم كثيرة في طريق لم يخل من انكسارات قبل أن يحل الصمت في القلعة البيضاء ترقبا لمآل شد الحبل بين الرئيس والقائد حول تجديد العقد من عدمه. وفي ذروة توتر الأجواء، يصاب الرئيس بفيروس كورونا بينما يدخل القائد قاعة العمليات لإصابة في الركبة.

بين البقاء أو الرحيل، ليس من الضرورة البحث عن المذنب بين النجم والرئيس. الكرة الاحترافية علاقة تعاقدية ورهانات موقوفة على المستقبل. ثم إن للعطاء الرياضي أجلا محتوما بشيخوخة مبكرة. هي سنة التعاقب ولا يمكن لراموس أن يمنع حلول الخريف. سيذهب ويأتي آخر. ولأنها لعبة جماعية، فإن تطور الفكر الفني الكروي توغل في تفاصيل دقيقة لنسج التوليفات والمعادلات المحققة للتوازن والانسجام بين العناصر على الرقعة. لا أحد يعوض أحدا بشكل خالص ومباشر. المنقبون يبحثون عن قطع تندمج مع أخرى لضمان تماسك وفعالية الترسانة الجماعية.

السؤال إذن ليس: هل يسد النمساوي ألابا – أو غيره- مكان راموس، هل يعادله أو حتى يتوفق عليه على مستوى المؤهلات الفردية؟. حين وصف الناخب الاسباني لويس إنريكي راموس بأنه “فريد من نوعه في تاريخ الكرة” فتلك إشارة تستدعي وقفة وتفكيرا حول أسرار هذه الفرادة. والواضح أن لويس كان يقصد، فضلا عن الكفاءة التقنية، قدرة استثنائية على التأثير في محيط رفاق اللاعب وخصومه على السواء.

راموس، زفرات الجنوب الحارة في صدر ينبض بالتحدي والكبرياء، حصان أندلسي جامح لا يروضه العناد. حين تقدم الفتى ابن التاسعة عشر ليسدد من بعيد في مرمى كاسياس وهو بقميص اشبيلية، كان يدق الباب الكبير بتوثب الناظر الى أفق بعيد. وكان بيريز، على المدرجات، يطرق السمع ليفتح الباب على مصراعيه أمام من سيصبح أفضل مدافع وأفضل قائد في تاريخ الريال.

غير أن المدهش في سيرة راموس ليس الصعود المبكر والسريع الى القائمة الرسمية للكلاكتيكوس، بل قدرته على بناء نصب لا ينهدم في ناد عرف عنه ادمان التغيير والتجريب وتوطن في عرفه حكم ناجز بالاقصاء عند أول علامة خمول أو وهن في سباق تنافس لا يرحم على ارتداء قميص نادي القرن. تمر السنوات، ويظل ابن “كاماس”، البلدة الصغيرة في ضاحية اشبيلية، رقما صعبا في حسابات كل المدربين في القلعة البيضاء كما في لاروخا. رقم متحول من ظهير أيمن يجمع شراسة الارتداد بنزوع فطري الى الهجوم، الى قلب أسد في مركز ثقل الدفاع، باسطا سطوته على مساحات الخطر، مواليا صلابة المراقبة والصد وسلاسة البناء من الخلف بكفاءة تقنية لا تحجبها قوة التدخلات.

إنه مسار تحول مماثل لما خطه ملهمه وقدوته، أمير الأناقة الدفاعية، الايطالي باولو مالديني، الذي أقر له بصدارة فيلق النخبة في جيش الدفاع الحديث. حتى أنشيلوتي، رفيق مالديني في ميلان العصر الذهبي، والذي درب الاثنين، اكتشف عند حلوله بمدريد من يقارنه بالقائد الإيطالي، وان اختلف الأسلوب. ومن المثير أن عبارات المديح وردت غزيرة من بلاد تدرس العالم تكتيكات الدفاع وتخرج صفوة وزرائه. لقد سلم كيليني أن راموس هو الأفضل، إذ “لا أحد يجاريه في انفجاريته”.

بعض الرياليين يعيرون برشلونة بتبعية ميسي والحال أن تبعية الريال لراموس لا تقل وضوحا. لا تكشفها فقط أهداف الحسم في نزالات التتويج المحلية والاوروبية ولا التدخلات المنقذة بل أرقام اقتران الغياب بالهزيمة في سجل النادي. تبعية البارصا هي لجنون الابداع من قدم أفضل لاعب في العالم أما تبعية الريال فلروح قيادية تحقن الرغبة في الفوز وتبث الرعب في نفوس الخصوم…وتؤذن بالانهيار حينما تحتجب لسبب ما.

نعم، في الكرة أيضا كما في السياسة والاجتماع، لغز الكاريزما حاسم. لعل هذا ما قصده كيليني حين قال ان مدافعي الملكي يصبحون أطفالا تائهين في غياب القائد. وهي حالة مثيرة حين يتعلق الأمر بأسماء تستحق انتخابها في فريق احلام عالمي، من قبيل كارباخال ومارسيلو وفاران، في أوج عطائهم.

لا يحبه الجميع طبعا. أوراقه الحمراء، شراسته، لحظاته الغضبية الهوجاء، خرجاته الاعلامية، …لكنهم، سرا أو علنا، يودون لو كان لاعبا في ناديهم المفضل. أما هو، فلا تزيده الآراء المتضاربة الا تصميما وتحديا. يفخر بتداريبه الماراتونية الخاصة، بقدر اعتداده بجسده الموشوم. فيه هوج “الفتى السيء” لكنه يبدد هذه النزعة الاستعراضية التي أجهضت مواهب كثيرة في طريق المجد على غرار بواتينغ “برينس” وبالوتيلي وشنايدر بل سحرة مثل رونالدينو وروبينو…بجدية وانضباط احترافي نموذجي وحياة عائلية مستقرة وقدرة على كسب التفاف المجموعة داخل الملعب وخارجه، بحيث تكون سطوته مطلبا للزملاء.

وعلى خطى الأبطال الحقيقيين الذين يخطبون ود الأسطورة، فإن الفتى يراكم امتياز السبق عن الآخرين ويحتفظ بسر النفس الطويل ويخوض معركة استباقية ضد القناعة بالانجاز وتهديدات العمر الزاحف. وكلما تكهن المراقبون ببروز من يطيح بعرشه، اشتد عوده أكثر، ورفع سقف الأداء عاليا. لذلك، وقفوا كلهم في المنتصف بينما واصل الصعود في منتصف عقده الثالث بطاقة متجددة وعطش متجذر للفوز، جعله من أكثر النجوم انتظاما في قوائم الفيفا والاتحاد الأوروبي لأفضل اللاعبين على مدى سنوات طويلة. تبددت التوقعات حول تياغو سيلفا وبونوتشي وكوليبالي وهوميلز وجيروم بواتينغ وبيكي…بينما يواصل سيرجيو الصعود على مستوى الرؤية داخل الرقعة، في التعامل الفني مع الكرة، في تحويل الاتجاه بتمريرات عرضية طويلة، في تدشين الهجمات بتواصل مع الأظهرة أو مع لاعبي الوسط، في التسديد الفني لضربات الجزاء والأخطاء، أما الارتقاء في منطقة العمليات فسر ينفرد به.

أهداف راموس كادت تكون وبالا عليه. فبعضهم يزعم أنها رماد يخفي نقائصه الدفاعية الأصلية. الأمر وارد لأن الكمال مطلب بعيد خصوصا في كرة حديثة يزداد تطلبها وتحتدم سرعتها وتتعقد معادلاتها. يهب محلل رياضي لا يخفي هواه البرشلوني، منصفا الرجل الذي يتولى في الريال مهمة خاصة مقارنة مع أي مدافع أوسط، من حيث مساحة التغطية التي يؤمنها في رسم تكتيكي يقوم على المجازفة الدائمة بالتوازن الدفاعي عبر تحرير مارسيلو لمهمة هجومية أكثر بينما ينزاح راموس ليجمع غالبا بين صد الهجمات الوافدة من العمق مع مراقبة الانسلالات الجانبية على جناحه الأيسر، وهي مهمة كثيرا ما يدفع راموس والفريق ثمن حساباتها. على كل حال فإن للمهاجمين من عيار نيمار وسواريز رأي آخر يفي قائد الريال حقه، ومعظمهم لا يخفي معاناته مع المقاتل، لأنه فضلا عن قوته البدنية وصلابته فإنه يملك حسا فنيا يمكنه من استباق نوايا المهاجم ومناوراته.

كان له، من مقعده بملعب بيرنابيو، أن ينتشي بخبث بهزيمة مدوية لفريقه في إيابه مع أجاكس بعد أن قاده للفوز في قلب أمستردام، لكنه نزل الى المستودع ليدافع عن رفاقه أمام لوم الرئيس، المشروع.. القيادة عنده ممارسة ومسؤولية يبدو عاشق الفلامينغو والخيول جادا متفانيا في الاضطلاع بها بكل العنفوان. كلما غاب اضطرارا، يحرص على  الحضور في المدرجات دعما للروح المعنوية، ليس في مدريد حصرا بل في كل الملاعب.

بيريز… إن من يأتي الى مدريد سيعوض اللاعب، أما الروح التي تصنع من المجموعة علامة يتماهى معها المحبون عبر العالم وهوية لها مقوماتها، فسلعة

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)