يوميات في حضرة الشوافة – 27-

تناول الحضور وجبة العشاء والتي كانت عبارة عن كسكس لذيذ بلحم الجدي، وقطع من البطيخ الأحمر” دلاح”، أخذ كل واحد مكانه مع ترك مساحة فارغة لفسح المجال للراغبين والراغبات في “الجذبة” في إنتظار أن تنطلق الليلة لطرد الجني الذي يسكن جسد “ليلى”، وضعت أم “ليلى” صينية بها قالب للسكر وعدة قارورات من ماء الزهر وإيناء من الفخار مملوء بالحناء أمام رئيس الفرقة “المقدم”.

وكعادتي اخترت مكانا بالقرب من أعضاء الفرقة الحمدوشية بزاوية فناء المنزل ، لأن هذا الوضع ببساطة سيمكنني من متابعة كل ما يجري داخل فناء المنزل، وخاصة أنني تعودت على ملازمة هذا المكان أثناء حضوري لمثل هذه المحطات، ولا أتحرك منه إلا للضرورة القصوى، وأبقى ملازما له حتى مطلع الفجر فور انتهاء الفرقة من مهمتها، فرغم أنه لم يسبق لي أن نهضت إلى القاعة من أجل “الجذبة” أمام الجميع إلا أنني كنت أتفاعل بكل جوارحي مع الموسيقى المنبعثة من الغيطة والناي والهجهوج وغيرها من الآلات الموسيقية التي كانت تستعملها الفرقة الحمدوشية في مثل هذه الليالي، التي كنت أحضرها ببيت جدة صديقي، وبأماكن أخرى، والتفاعل أيضا مع بعض الطقوس الغريبة التي تعرفها مثل هذه الليلة، لدرجة أنني أصبحت أعرف كل الوجوه التي اعتادت على حضور مثل هذه المناسبات، وأعرف أيضا المقاطع الموسيقية التي تطيح بالنساء داخل القاعة ودخولهن في هستيريا غريبة، أعرف أيضا الوجوه التي تفترس نبات الصبار، وكذا تلك الوجوه التي تشق رؤوسها بالسكاكين، والذين يكسرون الأواني الفخارية على رؤوسهم ولا يهدأ لهم بال حتى تسيل دمائهم.

ويبقى المشهد الذي يثيرني أكثر ويزيد من تفاعلي بشكل غريب حينما يغير أعضاء الفرقة من الإيقاع، ويدخلون في نمط آخر من الموسيقى.

 

ومن الوجوه التي كانت تثير شفقتي أيضا، أثناء دخولها في “الجذبة” بشكل جنوني، فتاة في عقدها الثالث تسمى “كنزة” كانت تشغل مهمة رئيسة العاملات بمعمل للمصبرات بالحي الصناعي، وتحظى بقيمة اجتماعية كبيرة في محيطها، صديقة الجميع، بشوشة، وكريمة، ذات جسم رشيق لونها أسمر، شعرها ناعم وأسود، كانت أول فتاة بحينا تملك وتقود سيارة، تبر بوالديها، تعتني وتهتم بإخوانها وأخواتها، إذن هذه هي الفتاة “كنزة”، التي كانت لا تتردد في حضور أية ليلة حمدوشية ولو خارج المدينة، حيث أصبحت وجها مألوفا لدى كافة الفرق الموسيقية الحمدوشية، وروادها وخاصة أنها كانت سخية معهم، وأن الليلة بدونها لا تكتمل.

 

وخلال مثل هذه الليالي، تعمد الفرقة الحمدوشية إلى الاحتفاظ بالمقاطع الموسيقية الأكثر إثارة إلى آخر السهرة، ومن أهم هذه المقاطع “لالة مليكة، لالة عيشة البحرية، مولاي إبراهيم، سيدي ميمون، وغيرها من الأنماط الأخرى، دون أن أنسى المقطع الذي كان يجذبني بشكل جنوني، ويجعلني أتيه في عالم عجيب وغريب، إنه مقطع ” سيدي الجياف” وسمي بهذا الإسم لأن النساء اللواتي كان “يجذبن” على هذا المقطع يدخلن في هيستيريا غريبة لدرجة أنهن يحاولن شنق أنفسهن باستعمال منادليهن، قبل أن يتدخلن نساء أخريات لمنعهن من ذلك، وكانت من بين النساء المعروفات “بالجذبة” وبشكل جنوني مع المقطع الغنائي “سيدي الجياف” الفتاة “كنزة”.

 

أما في البداية عادة ما كانت الفرقة الحمدوشية تعتمد على الطبل وتعريجة من النوع الكبير تسمى “لكوال” ثلاثة نقاط فوق حرف الكاف، يضعها العازف فوق كتفه، مع ترديد كلمات تصب كلها في خانة التقرب من الله عن طريق الأولياء الصالحين وملوك الجن، طلبا لشفاء المرضى، وجلب الرزق ، وطرد النحس، ومقاطع غنائية تتحدث عن لوعة الفراق والرثاء، قد يتفاعل معها بعض الحضور بالبكاء، قبل أن يمر أعضاء الفرقة إلى نوع آخر من الموسيقى الذي غالبا ما تستهوي الرجال الذين يرغبون في إسالة الدماء من رؤوسهم، باستعمال السكاكين أو الأواني الخزفية، في إنتظار ساعة الحسم أين سيتم الشروع في إستخراج الجن الذي يسكن جسد “ليلى” من قبل مقدم الفرقة.

يتبع

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)