يوميات في حضرة الشوافة -11-

في طريقي إلى بيت “الشريفة” وعلى مقربة من مقبرة النصارى، بدت لي سيارة الأمن متوقفة بمحاذاة سور المقبرة، قررت تغيير مسار طريقي لتجنب بعض أسئلة” البوليس” ماذا تفعل هنا أيها “البرهوش” ؟ وإلى أين أنت ذاهب في هذا الصباح؟ وخاصة أن المكان خلاء و فارغ من المارة تماما، فجأة وصلت سيارة إسعاف توقفت بجانب سيارة الأمن، ازداد فضولي لمعرفة ما يقع، استدرت يسارا ودخلت في قبو مهجور تعودت اللعب فيه رفقة أصدقائي خلال الصيف، والاقتيات من تين “الكرمة” التي توجد بجانبه، نزلت الأدراج وأنا أرتعد من شدة الخوف، ظلام دامس يخيم على المكان، وحده صوت الطاووس الحارس الأمين لمقبرة النصارى يتردد صداه بين جدران القبو، ثقب صغير ينبعث منه نور الشمس، قصدت الثقب وأنا أردد آيات بينات من القرآن الكريم، لأحمي نفسي من تلك “الجنية” التي كانت تسكن بالقبو وكانت لا تردد في إصابة أي شخص بإعاقة جسدية إن تجرأ ونزل إلى القبو، دون أن يتلو ما تيسر من القرآن، هكذا كنا نعتقد وهكذا كان يحكي لنا الكبار، وهذه هي حكاية القبو المهجور الذي كنا نطلق عليه إسم “الفرافر”.

 

بدأت أتابع حكاية سيارتي الأمن والإسعاف، عن طريق ثقب القبو، وإن كانت الصورة غير واضحة بالشكل المطلوب ، عرفت أن الأمر يتعلق بجثة شخص ما، علمت من بعد أن الجثة لشابة تعرضت لطعنات قاتلة بواسطة السلاح الأبيض وتم التخلص منها بالقرب من مقبرة النصارى، تحركت سيارة الإسعاف بسرعة فائقة، تلتها سيارة الأمن أنتظر مرورها لأخرج من القبو، وأتخلص من الخوف الذي كان ينتابني، فجأة توقفت سيارة الأمن أمام القبو، كاد قلبي أن ينفلت من مكانه، نزل شرطي من السيارة ازداد خوفي، كنت أعتقد أنه سيدخل القبو ويعتقلني، فلا تنفع معه تلاوة القرآن، كما فعلت مع “الجنية” صاحبة المكان، لكنه قصد “الكرمة” التي كنا نقتات من تينها، تبول عليها وعاد إلى سيارة الأمن، انطلقت السيارة اختفت عن الأنظار، تنفست الصعداء، خرجت من القبو مسرعا، وأنا ألهت من شدة الخوف الذي كان ينتابني، لقد نجوت من “الجنية” التي تسكن بالمكان ونجوت من الإعتقال أيضا .

 

واصلت طريقي نحو بيت “الشريفة” طرقت الباب فتحت الخادمة “زهرة” أحضرت الفطور، كان شهيا ومتنوعا، ليس كالفطور الذي اعتدت عليه في المنزل، كأس شاي وقطعة خبز “بايتة” أخبرتني أن “الشريفة” ذهبت إلى الحمام وكعادتها صبيحة كل يوم جمعة، أخرجت صورة بطلة فيلم “انتقام حية” من تحت ملابسي أهديتها للخادمة، فرحت كثيرا بهذه الهدية، قبلت صورة البطلة ووضعتها في دولاب خشبي صغير، استغربت لسلوكها، شرعت تجمع في أواني الفطور ثم غسلها، وما إن إنتهت حتى طلبت مني أن أساعدها في إخراج الأفرشة من بيت الضيوف إلى الفناء لنفضها من الغبار، تبدو “زهرة” أكثر من سنها، تشتغل كثيرا تتقن عملها، خجولة جدا، دائمة الإبتسامة ، قليلة الكلام، تنصت بإمعان، لها رغبة أكيدة في معرفة الأشياء، يشدها الشوق إلى والدتها و أخواتها، يشدها الحنين إلى قريتها الصغيرة، حكت لي أن والدها كان يشتغل عند والد “الشريفة” قبل أن تصبح هي أيضا خادمتها، جيء بها منذ أن كان عمرها 7 سنوات إلى هنا، كانت تمني نفسها أن تلج المدرسة لمعرفة القراءة والكتابة، حتى يتسنى لها كتابة رسالة بخط يدها وإرسالها لوالدتها وأخواتها في القرية التي لم تزرها منذ أربع سنوات، فقط والدها الذي يتردد على بيت “الشريفة” مرتين في السنة، لتسلم بعض المال مقابل عملها، يبدو أن الخادمة “زهرة” بدأ لسانها يطاوعها في البوح بما يختزله قلبها من أحزان ومعاناة.
يتبع

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)