الابتزاز الرقمي بالمغرب.. حين يصبح الضحية سجين الخوف والفضيحة

هم أشخاص بدون رحمة، يختبئون وراء شاشاتهم الرقمية، ينشئون مئات الحسابات الوهمية عبر منصات التواصل الاجتماعي لتعقب فرائسهم.

 

 لقد حولهم سعيهم للرّبح المّادي السّهل إلى وحوش بشرية، تتقن مختلف أصناف الاصطياد بسلاح التعذيب النفسي للضحايا، غير آبهين بالعقوبات وما ينتظرهم إن كشف أمرهم، فحدود نظرهم، لا تتجاوز المبالغ التي سيحصلون عليها من الابتزاز الرقمي.

قد تنهي الضحية حياتها، وقد ينهون حياتها الاجتماعية لكن جشعهم لا ينتهي.

 

بل يستمر ويتنامى لإسقاط ضحايا آخرين، يسلكون معهم طريق الابتزاز والتهديد بنشر خصوصياتهم وزلاتهم وعوراتهم على صفحات الشبكات الاجتماعية والمواقع الإباحية.

 

“ذقت الويلات بسبب جحيم الابتزاز الذي تعرضت له السنة الماضية، لقد عشت أياما سوداء، كانت أشبه بكابوس حقيقي”، بهذه العبارات تستهل نجاة (إسم مستعار) القاطنة بضواحي العاصمة المغربية الرباط، سرد قصة معاناتها مع الابتزاز الإلكتروني.

 

الابتزاز الجنسي في مقدمة الجرائم الإلكترونية

 

كشف تقرير رئاسة النيابة العامة لسنة 2020، أن جريمة الحصول على مبلغ من المال بواسطة التهديد بإفشاء أو نسبة أمور شائنة، التي تتخذ في الغالب شكل الابتزاز الجنسي، تأتي في مقدمة الجرائم المرتكبة باستعمال الوسائل المعلوماتية.

الصحيفة البريطانية الذائعة الصيت، “دايلي مايل”،  نشرت سنة 2017،  تقريرا مطولا تطرقت فيه لموضوع الابتزاز الرقمي الذي تعرض له مواطنون بريطانيون على يد مغاربة من منطقة “واد زم”، التي وصفتها الصحيفة بعاصمة الابتزاز الإلكتروني في العالم.

 

 بحسب الصحفية فإن أزيد من 3000 شخص في المنطقة، يحصلون على مبالغ مالية مهمة عبر الإبتزاز الإلكتروني.

 

 من جهتها كشفت المديرية العامة للأمن الوطني في حصيلتها السنوية لـ2021، أنّ مصالحها رصدت 3 آلاف و533 محتوى للابتزاز الرقمي. 

 

بخلاف سنة 2021، أبرزت المديرية في تقريرها لسنة 2020، أن 300 شخصا أحيلوا على النيابة العامة بشأن حالات الابتزاز الجنسي على شبكة الإنترنت، استهدفوا 458 ضحية، من بينهم 107 من الأجانب.

 

التفكير في الانتحار

 

تقول نجاة (48 عاما) وهي أرملة تعيش مع إبنتها البالغة من العمر 17 سنة، أن ما منعها من إنهاء حياتها هو حال إبنتها التي تتابع دراستها في سلك الباكلوريا.

 

قبل أن تضيف “لقد عانيت كثيرا من تبعات الابتزاز الذي تعرضت له. في كل مرة يطلب مني المُبتّز إرسال الأموال، كنت أفكر في الانتحار”.

 في حالات العنف التقليدي، تقول بشرى عبدو، رئيسة الجمعية في مقابلة مع شمس بوست أن الضحية تتلقى دعما معنويا سواء من الأسرة أو الأقارب، لكن في حالة العنف الرقمي والابتزاز، تجد الضحية نفسها وحيدة، وتؤدي بها دوامة الضغوط النفسية إلى التفكير في الانتحار وهناك حالات حاولت الانتحار”.

 

 

وبحسب الشهادات التي استقتها شمس بوست للعشرات من ضحايا الابتزاز الرقمي، فقد فكر معظمهن في الانتحار بسبب الضغوط النفسية الحادة التي عانين منها جراء الإبتزاز الرقمي.

 

وعلى غرار هذه الحالات، تقول  نجاة أنها عانت من آثار نفسية قوية بسبب الابتزاز الذي تعرضت له.

 

شدّت على رأسها وبدأت شفتيها تتمتمان والدّموع تملأ مقلتيها، قبل أن تواصل سرد قصتها وهي تغالب دموعها “إنني مجرد عاملة منزلية، ليس لدي ما يكفي من الأموال لإعالة نفسي وإبنتي، فما ادراك بإرسالها لشخص لا أعرف عنه كثيرا، يهددني بنشر صوري”.

 

بعدما كانت تقضي معظم وقتها في العمل المنزلي بمنازل العاصمة الرباط، توقفت نجاة عن العمل خلال فترة الحجر الصحي الأولى (2020)، ما جعلها تقضي وقتا طويلا في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي. خلال هذه الفترة تعرفت نجاة على مواطن من دولة عربية كان يعمل بالسعودية، قبل أن تتطور العلاقة بسرعة إلى قصة عاطفية.

 

وأكدت بشرى عبدو أن الجمعية استقبلت حالات تعرضن للإبتزاز الرقمي على يد أشخاص من دول عربية، إذ يطالبون ضحاياهم بإرسال مبالغ مالية مقابل عدم نشر الصور والفيديوهات.

 

وقالت نجاة أن علاقتهما الافتراضية تطورت بسرعة، وأصبحت تخالجها مشاعر قوية اتجاهه، فكانا يتواصلان عبر الواتساب والفيسبوك بشكل يومي.

 

قبل أن تضيف بالقول :” كنا نتبادل الأحاديث الرومنسية والصور والفيديوهات الحميمية.. كان في البداية شخصا جديرا بالثقة.. وثقت فيه كثيرا.. لأنني إمرأة وحيدة ولم أتعرف على أي رجل آخر بعد وفاة زوجي… وشعرت أن حضوره عوضني عن غياب الرجل في حياتي”.

 

اعترفت نجاة أنها كانت تتلقى مساعدات مالية شهرية من طرف هذا الشخص بعدما علم بمعاناتها من العطالة وأنها المعيل الوحيد لأبنتها، لكن حال هذا الأمر لم يدوم كثيرا.

 

تضيف بالقول:” لقد فقد عمله بالسعودية وعاد إلى بلاده، ثم فقدت الاتصال معه لمدة حوالي الثلاثة أشهر”.

 

أثر نفسي بكلفة اجتماعية واقتصادية

 

كشف بحث أجرته  المندوبية السامية للتخطيط (رسمية تعنى بالإحصاء) خلال الفترة الممتدة بين فبراير ويوليوز 2019 أن العنف بمختلف أشكاله بما فيه العنف الرقمي، له تكلفة اجتماعية واقتصادية على الضحايا وأبنائهم.

 

ويشير البحث إلى أن ضحية العنف تعاني من اضطرابات نفسية تكون لها تأثيرات مباشرة على نشاطها المهني والأسري، إذ تضطر الضحية إلى التغيب عن العمل وتتراجع مردوديتها المهنية.

 

ويبرز التقرير ذاته أن الضحية تضطر أحيانا إلى التوقف عن القيام بالتزاماتها الأسرية، ولا سيما رعاية أفراد أسرتها أو رعاية نفسها وكذلك القيام ببعض الأشغال المنزلية. 

 

وتقول الناشطة الحقوقية بشرى عبدو أن ” العديد من ضحايا الابتزاز الرقمي، لديهن مواقع مهمة داخل المجتمع، طبيبات وأستاذات جامعيات، وبنكيات.. كلهن تعرضن للعنف والابتزاز الرقمي”.

                                     بشرى عبدو- رئيسة جمعية التحدي للمساواة والمواطنة

 

وفي هذا السياق، تبرز المتحدثة أن هذه الحالات تكون صعبة بالنظر إلى أن الآثار النفسية والاجتماعية تكون وخيمة جدا ومدمرة.

 

الابتزاز الرقمي.. عنف بلا مكان ولا زمان

 

بعد فقدانها التواصل مع “حبيبها الافتراضي” تقول نجاة “حاولت البحث عن عمل قار يضمن لي عيشا محترما مع إبنتي، وبعد بحث طويل وجدت عملا بإحدى المقاهي بالمدينة، كنت أقوم بغسل الأواني وتنظيف المكان”، قبل أن تتفاجأ ذات يوم برسالة منه، وهو يطالبها بإرجاع أمواله”.

 

تقول نجاة “لقد صدمت من هذه الرسالة، لأنني صرفت المبلغ كله، لم أظن أنه سيطلب استعادته.. أخبرته أنه ليس لدي مالا أرسله وأنه يعلم جيدا وضعي الاجتماعي، لكنه لم يتقبل هذا الأمر وبدأ يبتزني بنشر صوري القديمة وإرسالها لأبنتي بعدما وجد حسابها بالفايسبوك، في حال عدم إرسال المبلغ (5000 درهم).

 

وتقول بشرى عبدو أن “آثار العنف الرقمي لا تُمحى مع الوقت، عنف بلا مكان ولا زمان” وتفسر ذلك بالقول أن صور وفيديوهات الضحية يمكن لها أن تعود للظهور بعد مرور مدة على الواقعة، مشيرة إلى واقعة فتاة تطوان (هناء / 24 عاما) التي تعرضت للابتزاز الجنسي الرقمي وهزت قصتها الرأي العام الوطني والدولي.

 

       ” تعرضت الشابة هناء (أم لطفلين) للابتزاز الرقمي من طرف شخص مقيم في الخارج أقامت معه علاقة قبل سنوات من زواجها بعدما نشر لها فيديوهات في اوضاع جنسية”. 

 

وجدت نجاة نفسها في وضع لا تحسد عليه، فمن جهة يوجد هذا المبتز الذي يبدو أنه تحول إلى وحش بشري، ومن جهة أخرى تقول نجاة،” وجدت نفسي وحيدة أقاوم هذه المصائب التي نزلت تباعا.. ليس لدي ما يكفي من المال لإكمال الشهر، ولن يقرضني أحد هذا المبلغ”.

 

بعد تفكير عميق، فضلت نجاة أن تلجأ لإحدى الجمعيات التي تعنى بالابتزاز الرقمي من أجل عرض معاناتها، على أن تقدم شكاية في الموضوع للجهات الأمنية، وتبرر ذلك بكونها لا تفهم القانون ولم تطأ قدميها يوما مركز الشرطة، “كنت خائفة أن يشاع الأمر بالمدينة الصغيرة وأصير حديث للساعة، زيادة على أن المبتز يوجد خارج المغرب فاحتمال إقدامه على فعلته وارد جدا.”

 

وتختم نجاة حديثها للموقع مؤكدة أن الجمعية التي لجأت إليها، تدخلت بسرعة وتمكنت من إقناع المبتّز بأن يمسح جميع الصور والفيديوهات وإلا فإن إقدامه على فعلته سيعرضه للمساءلة القانونية بالرغم من أن جنسيته ليست مغربية ويعيش في بلد عربي.

 

 في الأخير تقول نجاة :”أنا مدينة لهذه للجمعية على ما فعلته من أجلي وإبنتي.. لقد أنقذوا حياتي”. 

 

 

واحد من كل عشرة رجال ضحية للعنف الإلكتروني

 

بحسب الإحصائيات التي قدمتها المندوبية السامية للتخطيط في مذكرة حول العنف لدى الرجال سنة 2019، فإن “واحد من كل عشرة رجال ضحية للعنف الإلكتروني، والرجال في المدن والعزاب والتلاميذ والطلبة هم الضحايا الرئيسيون”.

ضعف المعرفة بالقانون يعزز الخوف من اللجوء للقضاء

 

أكد العشرات من ضحايا الابتزاز الرقمي، الذين تواصلت معهم شمس بوست جهلهم بالقوانين المتعلقة بالجرائم الإلكترونية والعقوبات المترتبة عنها، إذ أن العديد منهم يظن أن بمجرد لجوئه للشكاية، سيُكشف أمره ويُفتح الباب للخوض في عرضه مما يعزز خوفه من اللجوء إلى القضاء.

 

وأكدت المندوبية السامية في بحث لها لسنة 2019 أنّ أكثر من نصف النساء والرجال ليسوا على علم بوجود القانون المتعلق بالحماية من العنف ضد المرأة، حيث يؤكد أكثر من 58 % من النساء و 57 % من الرجال جهلهم بوجود هذا القانون.

 

و تقول بشرى عبدو رئيسة جمعية التحدي للمساواة والمواطنة، أن 2016، كانت أول سنة تتلقى فيها الجمعية شكاية من ضحية تعرضت للابتزاز الجنسي الرقمي، مشيرة إلى أنه كان من الصعب التعامل مع هذه الحالة بحكم أن الجمعية كانت تستقبل فقط حالات تعرضن للعنف التقليدي.

 

وتضيف المتحدثة، أن هذه الحالة دفعت بالجمعية إلى البحث عن مواد قانونية في القانون الجنائي المغربي المتعلقة بهذا النوع من الجرائم، بالإضافة إلى طريقة صياغة الشكاية القانونية المخصصة لهذه الحالات.

 

وفي هذا السياق تؤكد المتحدثة أنه يجب على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها في تسهيل مساطر الشكاية وكذا تسريع البحث من طرف الجهات الأمنية وحماية الضحايا من الابتزاز الرقمي وآثاره النفسية.

 

وتضيف بشرى ، أن العديد من الضحايا وصلت بهم حدة الضغوط النفسية إلى تغيير الحي وفي بعض الحالات تم تغيير المدينة، لأن الضحية كانت تسيطر على عقله أفكار سوداوية، ويظن أن أي شخص يصادفه في الشارع العام قد يكون شاهد صوره أ فيديوهاته في الأنترنت.

 

 

وبالرغم من كل الجهود التي تبذلها السلطات الأمنية والمجتمع المدني، لازالت ظاهرة الابتزاز الإلكتروني، تُسقط العديد من الضحايا وتدمر حياتهم الشخصية والمهنية، خاصة بعد الإقبال الواسع الذي تشهده  منصات التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، واتساع رقعة مستعملي الانترنت بالمغرب.

 

 فبحسب إحصائيات مجموعة “Sunergia” وهي مجموعة رائدة متخصصة في أبحاث السوق والتسويق واستطلاعات الرأي في المغرب وأفريقيا. فإن %84 من المغاربة يستخدمون تطبيق “واتساب”، وأن 79 في المائة منهم يستخدمونه بشكل يومي. بينما %57 منهم يستخدمون الفيسبوك، و42% يستخدمون الإنستغرام.

 

أي أنّ الغالبية الساحقة من المغاربة أصبحت تقضى معظم وقتها في تصفح هذه التطبيقات، ما قد يعرضهم للوقوع في فخ محترفي جرائم الابتزاز الإلكتروني. الأمر الذي يستدعي تشديد المراقبة والتحسيس بالمخاطر المصاحبة لاستخدام هذه المواقع، بالإضافة إلى تعزيز الترسانة القانونية لردع المبتزين ولحماية الأشخاص من هذه الجرائم الرقمية المدمرة.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)