شريكات المصير

        اسمان بارزان في التاريخ المغربي الحديث، مثّل الزواج في حياتهما منعطفا حاسما خلّد ذكراهما وأهلهما للعب أدوار تاريخية، ستكتب حولها الكتب وتروى الشهادات، سيدتان كان الارتباط في حياتهما بوابة ولجتا منها لعالم كلفهما سنين طويلة من المقاومة في سبيل قضايا الحق والعدل، اسمان صنعا محطة من محطات النضال الذي كتب نهاية عار طبع تاريخ المغرب وعرف بسنوات الجمر والرصاص.

كريستين السرفاتي، الاسم الذي عرفه كل من قرأ عن تاريخ الحركة الماركسية اللينينية المغربية، وعن معتقلي سجن تزمامارت الرهيب. قدمت من فرنسا للمغرب للعمل أستاذة لمادتي التاريخ والجغرافيا، قبل أن تتعرف على المناضل أبراهام السرفاتي العضو السابق في” الحزب الشيوعي المغربي“، ومؤسس منظمة إلى الأمام، وتدخل بسببه لعالم المعارضة في فترة جد معقدة من تاريخ المغرب، نشاطها هذا سيتسبب لها في المضايقات والدعوات المتكررة لمكاتب التحقيق وصولا للطرد من المغرب في أكثر من مناسبة.

بعد طردها ستواصل كريستين نضالاتها من باريس مستغلة مكانتها كمناضلة حقوقية معروفة حينئذ، وبقيت متتبعة لأنشطة أبراهام السرفاتي الذي تردد كثيرا على أقبية الأمن، قبل أن يصبح نزيلها الدائم تنفيذا لعقوبة سجنية مدى الحياة، حيث ستقرر كريستين الزواج منه بوساطة من دانييل ميتران -زوجة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتيران- لدى الحسن الثاني، لتضمن البقاء قريبة منه وتتسنى لها زيارته، لتنتقل بعدها لتوظيف واستغلال كل علاقاتها بالمنظمات الدولية والعاملين في الحقل الحقوقي محاولةً إنهاء محنة زوجها ومن خلاله عشرات المعتقلين الآخرين ضحايا ضيق الأفق السياسي وغياب الحريات وقمع المعارضة. فأطلقت حملتها التضامنية مع معتقلي الحركة الماركسية اللينينية المغربية، ثم لاحقا مع معتقلي سجن تزمامارت بعد أن نجحت إحدى رسائلهم المهربة من الوصول لها، حيث ستكون على رأس حملة دولية في أوروبا لفائدة هؤلاء المعتقلين.

جهود كريستين وتحركات المنظمات الحقوقية في المغرب، بالإضافة لجهود دولية موازية، ستشكل ضغطا كبيرا سينتهي أخيرا بإطلاق سراح أبراهام في 1991، بعد قضاءه لما يقارب العقدين مسجونا بسبب مواقفه السياسية، لكن بشروط قاسية تضمنت نفيه من وطنه وسحب جنسيته، لتنتقل كريستين لفصل آخر صعب من المعاناة بجوار زوجها الطريد والمنفي بنفس الثبات والشجاعة، حتى ينتهي الأمر بالسماح لهما بالعودة للمغرب مع بداية عهد الملك محمد السادس ورد الاعتبار لأبراهام الذي ضلت رفيقة له حتى وافته المنية سنة 2010 لتلحق به بعد أربع سنوات مخلفة رصيد من النضال من أجل تكريس حقوق الإنسان، تنوع بين العمل الميداني والتأليف.

سيدة أخرى وقفة في وجه الغطرسة والإنكار، نانسي الطويل زوجة القبطان مبارك الطويل الذي أودع معتقل تزمامارت على إثر المحاولة الانقلابية لسنة 1971، والتي قامت بدور عظيم في سبيل كشف حقيقة المعتقل وتوقيف عملية الموت البطيء التي كان يتعرض لها نزلاؤه، السيدة نانسي الطويل الأمريكية الجنسية وبعد توصلها سرا برسالة من زوجها المعتقل أثارت القضية أمام لجنة حقوق الإنسان بالكونجرس والمؤسسات السياسية الأمريكية لممارسة الضغط لدى السلطات المغربية من أجل زوجها ورفاقه، واطلاع العالم على ما يجري داخل أسوار هذا السجن الرهيب في ذات الوقت الذي كان فيه الخطاب الرسمي المغربي ينفي وجود هذا المعتقل على لسان وزير داخليته الذي ظل يردد بأن تزمامارت موجود في مخيلة البعض فقط…

جهود نانسي أثمرت معاملة جيدة لزوجها في المعتقل الذي صمم ليتعفن داخله المعتقلون ويفقدوا ادميتهم ويموتوا في العراء، فأصبح بإمكانه التمتع بوقت فسحة وحمام وتغذية جيدة وأدوية، قبل أن تحقق -إلى جانب نضال زوجات وأمهات أخريات ومنظمات تعنى بحقوق الإنسان- الغاية الأساس وهي الإفراج عن معتقلي هذا الجحيم، أو من تبقى منهم بعد أن قضوا ما يقارب العقدين منفيين في جحيم كاد يبتلعهم عن آخرهم ، وتروي الشهادات أن نضال نانسي في هذا الملف إضافة لتقرير صدر عن منظمة العفو الدولية حول هذا المعتقل ربما جنب المعتقلين قرار كان قيد التنفيذ يعزم تصفيتهم وردمهم داخل أنفاق حفرت سلفا بمحيط المعتقل لهذا الغرض.

هذه الشذرات تقدم لنا نموذجين فقط ضمن نماذج كثيرة لنسوة امتلكن قوة الدفاع عن الحق والعدل والخير، وشجاعة التحدي والإيمان بالقيم المثلى، وعدم الرضوخ أو الركون بدعوى الضعف أو الاستسلام للقدر، نساء كن سندا عظيما لشركائهن حينما عجز أو تراجع الجميع من حولهم، أو تعمدوا تفاديهم وإنكار أية صلة بهم، نساء كن أقوى من أنظمة قمعية لا يوقفها شيء، فكان أن صنعن واجهة مشرقة في تاريخ بلد كان يمر بأحلك فتراته، وقدمن صورة مشرفة عن معنى وواجبات الارتباط والالتزام تجاه الشركاء، لتبقى في سيرهن الخالدة رسالة واضحة تخاطب أطراف كل علاقة أن لهما فرصة للاختيار بين شريك حقيقي، أو التخلي عن فكرة الشراكة والتقاسم من أساسها.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)