مشاعر الكترونية بين المجاملة والصدق

ونحن في أوج قاطرة الحضارة وتنوع التكنولوجيا الحديثة، حيث طغت لغة الأرقام والنظم المعقدة على لغة المشاعر، ومصداقيتها على صدق التعابير والكلمات، تم اختصار الإعجاب في نقر بعض اللايكات أو غيرها من رموز الإيموجي المعبرة، التي أراد بواسطتها مديرو تطبيقات التواصل أو المواقع الاجتماعية إطفاء اللمسة الإنسانية ببعض المشاعر على الكتابات والتعاليق الجامدة لجعلها أكثر تعبيرا وأكثر عمقا، بتمكين القارئ من إدراك ما يحسه الكاتب أو المعلق في تلك اللحظة التي هي بمثابة نواة الذرة حيث تستقر بتساوي السالب والموجب داخلها و تتعرض للإشعاع النووي إذا ما اختل استقرار عناصرها، وكذلك المشاعر التي تستقر أو تنفجر وتتغير في لحظات من أدناها إلى أقصاها والعكس، والتعبير بلغة الرموز الحية والرسوم لا يضفي الحياة على المعنى الجاف فقط، بل يتجاوز ذلك إلى حد الإثارة والتشويق لما سيحس به القارئ في لحظة مطالعة وانسجام أكثر من رأيه في الموضوع في حد ذاته.

لذلك كله، ولأكثر من سبب، يتم مشاركة المشاعر العميقة إلكترونيا عبر الفضاءات الاجتماعية حيث نعاين المجاملات، وأيقونات الحب والكراهية والعدوانية والعنصرية والكثير الكثير من تجليات الجهل والطائفية، أغلبها أحاسيس نابعة من تفريغات اللاوعي البشري كمتنفس يحقق الانسجام بين الواقع والافتراضي ويتممه، حيث لا مجال للازدواجية في الخطاب أو المبادئ.                  

وبقدر ما يجده المتلقي من متعة في التعليق، بقدر التنمُّر الذي ساد فأساء إلى فن الكتابة بالخروج عن أبجديات النص والمعنى المكتوب حرفيا، هذا الأخير الذي ألفه عظماء البلاغة والكتابة والنقد وشعراء لغة الضاد، فالعبارات المرمّزة أحيانا أو التي تحمل كلمات دخيلة عن اللغة العربية أصبح لها مدلول ثقافي يقرأ ويفهم نصا، رمزا و صورة على حد سواء، وأصبح تبسيط تلقي المعلومة و الفهم الصحيح بإيصال التصور والفكرة الذي يريد الكاتب إيصالهما للقارئ أهم من الكتابة نفسها ومن اللغة، مما أسس للمفهوم الجديد للتواصل الذي تجاوز كل حواجز اللغة وأصفاد النحو.

ولكن، هل حافظت الكلمات والرموز عن صدقها وصدق الكاتب؟

الصدق هو تعبير صريح وشفاف، وترجمة ما يدور بين القلب والعقل في كلمات دون قيود، ودون خوف من ردة فعل الآخر، فصدق الكلمات وهو الذي يوافق صدق ونقاء السريرة، هو شيء لا يحتاج لارتقاء في الإمكانيات بقدر ما يحتاج لتحضر الانسان وفهمه الصحيح للأمور، وتسمية حقيقية واقعية لمسميات الأشياء. فلطالما بحث الإنسان عن الصدق ومشاعر الخير في أحلامه حتى كانت الكلمة الطيبة من بين أولويات ما دعت إليه كل الأديان السماوية وما وصى به حكماء كل العصور لوقعها الإيجابي على دفئ العلاقات ولم شمل المجتمع.

بالمقابل ولأسباب شبه مجهولة، انتشرت ثقافة المجاملة لتقضي على ما بقي من مصداقية الصدق، حيث أضحى الجميع يبادر بمدح الجميع على اختلاف درجاتهم الاجتماعية بعبارات منتقيات وبأوصاف خيالية تكاد تكون مفقودة فيمن طالته وأغدقت عليه أبيات المدح، فيشعر الظالم أنه على حق، والبديء على أنه محترم، واللص إذا علا له شأن وارتفع، على أنه سيد الطهر والعفة. وغالبا ما يكون لهذه المجاملات أهداف سياسية أو اجتماعية أو تسويقية أو ربحية أو لمجرد التقرب من ذوي الإمرة والنفوذ داخل المجتمع خلال فترة زمنية معينة ومؤقتة .

إذ بات من الصعب التفريق بين كل من يجامل نفاقا ومن يبادل الحب والإعجاب، وأمسى من التحضر اختصار المشاعر فيما هو عملي فقط، وتهميش الصدق الواقعي أو النصيحة قولا والتي أصبحت شيئا خارجا عن المألوف وعن اللياقة وبداءة في الرأي وشططا في الاستعمال المفرط لحرية التعبير.

ما فتئت بعدها أن طغت السطحية على طبيعة العلاقات الاجتماعية للجنس البشري الذي فصل نفسه في ركنه الخاص سماه الخصوصية بمنأى عن الآخر فيما يخص الترابط الاجتماعي بين الأفراد والتكامل بين هاته المكونات المجتمعية، إذ يتوقف سيل هاته المجاملات وتنقضي، وتنتهي محاولات التقرب وربط الاتصال، وتحذف أرقام من دليل الهاتف وينفض جمهور المعجبين بمجرد تراجع قوة المُجَامَل أو فور فقدانه لمركزه المهني أو الاجتماعي أو لعافيته أو لسلطاته أو وساطاته التي كانت تنفع يوما ما في تحريك عجلة المصالح والنفع المشترك.

إنها مودة النفاق الاجتماعي الذي أصّل لمفهوم جديد سلس في التعامل المفيد المكسب للوقت الذي يساوي المال، والمذر للربح في عصر الرأسمالية المتوحشة بجانب النظرية المكيافيلية : الغاية التي تبرر الوسيلة.

حيث تصاغ الكلمات في عضلة اللسان فحسب، لتقف عند الآذان ثم تتبخر لتترك وراءها اللاشيء من المشاعر والعدم من المعاني، قيلت لحاجة في نفس محتاج قضاها وانصرف شادا رحاله لشخص آخر وضحية أخرى من ضحايا طموحه الجارف الذي يأتي على الأخضر واليابس.

فالنقرة الواحدة للتقييم أو الإعجاب يمكن أن تدخل في ردود الأفعال المكتسبة التي لا تحتمل الكثير من الوقت للتفكير، في حين لا يمكن توقع وقعها على الطرف الآخر حسب الحالة النفسية التي يعيشها ومدى تقبله للدعابة أو الصراحة أو النصيحة أو للرأي الآخر ككل في تلك اللحظة وأمام أنظار الجميع على صفحات التواصل الاجتماعي، هاته الأخيرة التي يبقى كل ما يدوّن فيها لا يعدو أن يكون مجرد ادعاءات تقبل الحقيقة كما يمكن ألا يكون لها أساس من الصحة.

      بقلم : زكرياء جوطي

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)