لعريني*: علم الاجتماع يوجد على محك الاختبار بسبب كورونا

شمس بوست: ليلى العابدي العلوي
اعتبر صلاح الدين لعريني الأستاذ الباحث في سوسيولوجيا الصحة وأنثروبولوجيا المرض، في حوار لشمس بوست، أن علم الاجتماع اليوم يوجد على محك الاختبار أمام جائحة كورونا المباغتة.
وقال في ذات الحوار إن الجائحة أربكت جل الأنظمة بدء بالنظام الصحي مرورا بالنظام الاقتصادي وصولا إلى النظام الاجتماعي.
ومعلوم أن عالم الاجتماع هو طبيب المجتمع مهمته الأساس هي تشريح الجسد الاجتماعي وتشخيص أعطابه، والأكيد أن كورونا هي عطب بنيوي حل بهذا الجسد وأخل به وعطل وظائفه الحيوية وغير من نمط الحياة ومن شبكة العلاقات والروابط الاجتماعية.
نترككم مع الحوار كاملا:

1- ما هي وضعية جامعاتنا في تخصصات، مثل سوسيولوجيا الصحة؟
دعينا نوضح في البداية أن ما سنقدمه في هذا الحوار يتأطر في مجال الرأي أكثر مما يتأطر في مجال العلم، وما سندلي به يعبر عن موقفنا الشخصي كمواطن وكباحث في سوسيولوجيا الصحة وأنثربولوجيا المرض معني بما يجري من أحداث وظواهر في الحقل الصحي، وفي نظرنا ليس هناك مجال يتسع للتعبير عن القناعات والتقديرات الشخصية مثلما يتسع الحقل الصحفي باعتباره مجال للرأي بامتياز.
فيما يخص وضعية سوسيولوجيا الصحة في الجامعة المغربية، يبدو أنها بأفضل حال مقارنة على ما كانت عليه بالماضي، معلوم أن هذا التخصص الأكاديمي دخل إلى المغرب عبر بوابة ظهر المهراز بفاس، نهاية الألفية الفارطة، مع علماء الاجتماع مغاربة مرموقين كعبد الصمد الديالمي ومحمد عبابو وعبد الرحمان المالكي، ثم انتقل في السنوات الأخيرة إلى باقي الجامعات المغربية. يشهد هذا التخصص الناشئ تحسنا متناميا خاصة من الناحية الكمية؛ وتوسعا متزايدا وانتشارا ملحوظا على المستوى الوطني، ولم يعد هذا التخصص، كما أشرت، حبيس أسوار جامعة ظهر المهراز بل امتد ليعم جل الجامعات المغربية وأصبح واحدا من التكوينات الأساسية التي تدرس في سلك الإجازة وفي سلك الماستر كما هو الحال عندنا بجامعة فاس.
وفي ظل الطلب الاجتماعي المتزايد على السوسيولوجيا بالجامعة المغربية، كان لسوسيولوجيا الصحة نصيب من هذا الطلب، إذ شهدت السنوات الأخيرة مناقشة أطروحات جامعية مهمة في سوسيولوجيا الصحة بجامعتي محمد الخامس بالرباط وسيدي محمد بن عبد الله بفاس، كما يوجد اليوم عدد مهم من الشباب الباحثين في سلك الدكتوراه ممن يحملون مشاريع بحثية حول قضايا وموضوعات مهمة ومختلفة (الأمراض المزمنة، أنظمة الرعاية الصحية، التغطية الصحية، الصحة العمومية، السياسات الصحية…). فضلا عن ذلك، يوجد متخبر السوسيولوجيا والسيكولوجيا بظهر المهراز، يفرد حيزا كبيرا من مجهوداته وأنشطته ومشاريعه للنهوض بمهمة تطوير البحث السوسيولوجي في عوالم الصحة والمرض؛ فمنذ تأسيسه سنة 2008 وهو يساهم في تحقيق واحد من أهداف مشروعه استراتيجي، وهو التقعيد العلمي لسوسيولوجيا الصحة والمرض بالمغرب عبر بوابة التراكم الكمي للأبحاث والدراسات والندوات الدولية والمنشورات العلمية التي يوجد اليوم أعداد مهمة منها بمجلة آفاق سوسيولوجية المتخصصة في موضوعات وقضايا سوسيولوجيا الصحة والمرض، وقد تحقق كل بتعاون مع شركاء مختبرنا المؤقتين منهم والدائمين كجامعة الرابط الدولية، ومركز جاك بيرك، ومعهد البحث في السرطان…إلخ
أما من الناحية الكيفية، يمكنني التأكيد على أن سوسيولوجيا الصحة في المغرب لم تتجاوز بعد مرحلة التراكم الكمي للمعارف والأبحاث نظرا لحداثة هذا التخصص المعرفي في الجامعة المغربية وفي العالم العربي أيضا، وإن كانت التجربة المغربية رائدة في هذا المجال؛ رغم أنها لا زال في طور التشكل والإنبناء، صحيح أننا تجاوزنا سؤال الهوية العلمية والمأسسة الأكاديمية، لكننا لم نحقق انتقالا معرفيا حقيقيا من الكم إلى الكيف، فعلى الرغم من أصالة وأهمية بعض الأبحاث والأطروحات الجامعية المنجزة في هذا التخصص، فإننا لم نبلغ بما يكفي، مرحلة الإبداع والنقد والتجديد الذي لا زال في مرحلته الجنينية. وأعتقد أن باقي الحقول السوسيولوجية لا تشذ عن هذه القاعدة.

2- ما هي الأسئلة المهمة المطروحة على علم الاجتماع اليوم في ظل الحضر الصحي؟

علم الاجتماع اليوم يوجد على محك الاختبار أمام جائحة كورونا المباغتة التي أربكت جل الأنظمة بدء بالنظام الصحي مرورا بالنظام الاقتصادي وصولا إلى النظام الاجتماعي. ومعلوم أن عالم الاجتماع هو طبيب المجتمع مهمته الأساس هي تشريح الجسد الاجتماعي وتشخيص أعطابه، والأكيد أن كورونا هي عطب بنيوي حل بهذا الجسد وأخل به وعطل وظائفه الحيوية وغير من نمط الحياة ومن شبكة العلاقات والروابط الاجتماعية … إلخ.

واعتقد أنه أمام كل هذه التغيرات تصير الحاجة إلى عالم الاجتماع ماسة وأكثر ملحاحية للمساهمة في الرصد العلمي والتحليل الدقيق للوضع الوبائي الذي تمر منه بلادنا، وبالتالي المساهمة في استعادة الجسد الاجتماعي لعافيته عبر تعريف المجتمع بذاته وتحريره من هذا الوضع الباثولوجي.
ولكي يقوم عالم الاجتماع بمهمته على النحو المطلوب، في نظري، ينبغي عليه التريث والتأني، لأن علماء الاجتماع الذين يحترمون تقاليد دورهم الأكاديمي يراقبون الآن عن بعد وبعين سوسيولوجية فاحصة ما يعتمل في الجسد الاجتماعي من أحداث وتغيرات وتفاعلات… ومن لا يتقيد بذلك سيسقط في شراك شهوة القول وإصدار الأحكام على عواهنها دونما مراعاة لماهية علم الاجتماع الذي هو علم ميداني بامتياز، ومعلوم عند السوسيولوجيين أنه لا علم في علم الاجتماع إلا بما هو ميداني. لهذا، يبقى الميدان الاجتماعي هو المختبر الحقيقي لفحص وغربلة كل ما يتداول الآن في المجتمع المغربي من تحليلات وأراء وتكهنات وأحكام (بما في ذلك الأراء والتحليلات التي ندلي لها الآن لكم) حول هذه الجائحة.
يمكنني القول أن دور علم الاجتماع في ظل واقعة الحجر الصحي الذي يمر به المغاربة، هو التفكير في العديد من الأسئلة والمفاهيم والقضايا التي فرضت نفسها بسبب هذه الحدث الباثولوجي. من بين هذه الأسئلة سؤال سبل المواجهة الجماعية للكوارث، وسؤال هشاشة الأمن الصحي وما يرتبط به من مخاطر متعددة كالخطر البيئي والخطر الغذائي والخطر الوبائي …وأيضا التفكير في مسألة التدبير الاستباقي للمخاطر والأزمات والكوارث التي لا زالت مغيبة اليوم عن الجامعة المغربية على الرغم من أهميتها. والعلوم الاجتماعية اليوم مطالب بالانفتاح أكثر على عوالم سوسيولوجيا الصحة والمرض من أجل تجاوز مفاهيمنا التقليدية عن مفهوم الأمن والخطر؛ بحيث لم تعد فقط الحروب والكوارث الطبيعية مصدر تهديد أمننا المجتمعي، بل خطر الأوبئة لا زال قائما أيضا. وربما من بين أسباب ذلك هو تقدرينا المبالغ فيه لقدرة العلم على السيطرة على الطبيعة وترويضها لتلائم حاجيات ورغبات الإنسان، بعدما ساد لعقود أن زمن الأوبئة قد ولّى بلا رجعة، وأن حرب الميكروبات والفيروسات وضعت أوزارها لصالح الإنسان.
ومن بين ما يمكن لعلماء الاجتماع التفكير فيه أيضا، تجربة الحجر الصحي كتجربة اجتماعية عمومية، كما يمكن الآن التكفير بشكل استباقي في مآلات الحجر، صحيح أنه يبقى الآن الخيار الوحيد المتاحة لنا للحد من ظاهرة الانتشار الاجتماعي للوباء، وهو الحل الوحيد الذي واجهت به الشعوب عبر تاريخيا الجوائح الوبائية، إلا إن السؤال الذي يطرح نفسه: هو إلى أي مدى سيلتزم الكل بالحجر الصحي، وإلى متى سينتهي، وما هي تكلفته على الاقتصاد الوطني وعلى المجتمع والفرد؟

3- جائحة كورونا شكلت تحدي كبير على مجموعة من الأصعدة الدول، الحكومات، العلاقات الخارجية، وبالضرورة هي تحد كبير لعلماء الاجتماع، خاصة أننا اليوم أمام حل هو الحد من العلاقات الاجتماعية هل يمكن أن نشهد وعي بالأمر في القادم من الأيام؟

صحيح أن هذا الوباء ليس امتحان وطني فحسب بل هو امتحان دولي، ومحك حقيقي وشامل لجل الأنظمة الوطنية والدولية، فهو أشبه إلى حد ما بحرب كونية ضد عدو خفي كما جاء على لسان بعض المفكرين والعلماء. وربما لأول مرة تضع المجتمعات البشرية جل خلافاتها وحروبها جانبا وتتحد بمختلف أديانها ولغاتها وأوطانها ضد هذه الجائحة.

في تقديري الشخصي لا ينبغي أن ننسى أن البشرية تدين في جانب من تقدمها إلى الأزمات والكوارث، فالعديد من الدول دمرتها الحرب وأنهكتها الكوارث الطبيعة لكن حالها تغير جذريا إلى الأفضل بعد انفراج الأزمة؛ فبسبب وباء الأنفلونزا التي فشت في إسبانيا عشية نهاية الحرب العالمية الأولى، تطورت إسبانيا وتطور معها علم الأوبئة والبحث في عوالم الفيروسات في العالم، وبسبب الحرب العالمية الثانية نهضت ألمانيا بعدما سقطت كما اليابان والأمثلة المشابهة في هذا المجال كثيرة.

رغم أن الأزمات مدمرة، إلا أنه يبقى لها دور في هدم وإعادة بناء الأدوار والأولويات والتراتبيات السلطوية. وهذا ما تظهره جائحة كورونا، فهي اليوم مِحْلاَلٌ لاختبار مصداقية الكثير من اليقينيات والأفكار والمفاهيم والإيديولوجيات والعقائد الدينية والسياسية والفلسفية…إلخ
لا ينبغي أن ننسى أن الأحداث المأساوية الكبرى تدعو إلى التفكير، وتكون مناسبة للمراجعة والتجديد، والفصل بين السابق واللاحق كما هو الشأن بالأحداث الفردية والعائلية المحزنة كحدث الموت وحدث المرض مثلا، لكن ما يميز كورونا أنها حدث جماعي بل كوني، الكل معني به، والكل مدعو إلى التضامن والوعي بالمصير المشترك لنوعنا البشري. لذلك، فإن أهم ما يمكن استخلاصه من هذا الحدث المتسم بالمباغتة وبالندرة واللاتوقع هو ضرورة التفكير في قيم العيش المشترك التي يتوقف عليها مصير حضارة الإنسان المعولم، مع العمل على مُساءلة العديد من المفاهيم التي بدت اليوم جوفاء كمفهوم الحكامة الدولية، والتعاون الدولي، والليبرالية الاقتصادية…الخ.
بخصوص مسألة التنبؤ بالوعي بأهمية الحجر الصحي في قادم الأيام، يمكنني القول إن أكبر مربي للإنسان هو الموت والمرض، بمعنى أن الفئات التي لم تعي بعد أهمية الحجر الصحي، ربما لا زالت تعتقد أنها غير معنية بما يجري وأن هذا المرض يخص غيرها أو أنه غير موجود بالحي أو القرية أو المدينة التي تقطنها، لكن حينما يصبح العكس ويحل المرض ويموت أحد الجيران أو الأقارب أو الأصدقاء أو أفراد الأسرة، ستعي تقصيرها وخطورة ما كانت تقترف، حينها سيروض الموت تخلفها وسيوقظها من سبات جهلها. وبالتالي، فكلما عم الوباء وارتفع نسبة الإصابات والوافيات كلما عم الوعي أكثر والتزم الأفراد بيوتهم هذه قاعدة معروفة في علم الأوبئة.
في مقابل الأقلية غير المُقدرة لمخاطر خرق الحجر الصحي، هناك أغلبية عبرت على حس عالي من المسؤولية والوعي الصحي والتآزر الاجتماعي والتضامن الوطني. يمكن للباحثين في علم الاجتماع اليوم، في ظل هذا الوضع، التفكير في سؤال كيف يغير المرض من حياتنا ومن نظرتنا إلى الوجود والزمن والصحة والغير والموت…إلخ؟ فالملاحظ اليوم أن واقعة الحجر الصحي نجمت عنها العديد من التغيرات على مستوى التمثل والخطاب والممارسة، فالحجر الصحي فرض نظام حياتي جديد تغير معه إيقاع ونمط الحياة اليومية وأحل ممارسات جديدة في آداب السلوك كأهمية تعقيم وغسل اليدين بشكل مستمر، وتعقيم النقود، وأهمية وضع مسافة الآمان بين الأفراد، وارتداء الكمامة الطبية والوعي بالخطورة الميكروبات والفيروسات المتربصة بالإنسان منذ الأزل.

4- التكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي أصبحت هي المنفذ الوحيد للتواصل، هل يعتبر تواصلا اجتماعيا نافعا من وجهة نظر علم الاجتماع؟

لا يمكن في نظري الحكم على شبكات التواصل الاجتماعي هل هي شبكات نافعة أم ضارة، أعتقد أن حكم من هذا القبيل لا يخلو من تحيز قيمي وهو ما يتعرض مع علمية علم الاجتماع.
ما يمكن التأكيد عليه هو أننا مجتمعات اتصالية وتواصلية بامتياز، وأن الاتصال صار ضرورة بل حاجة اجتماعية لا يمكن الاستغناء عنها، لأن التواصل هو أساس كل التنظيمات الاجتماعية ولمجتمع المعرفة الذي نتطلع إليه؛ بحيث لا يمكن بلوغ ذلك دون الوعي بضرورة إدماج التكنولوجيا في شتى مناحي حياتنا الاجتماعية في التعليم كما في الاقتصاد وفي السياسة كما في الثقافة وفي الإدارة كما في الإعلام وفي المستشفى كما في المقاولة…إلخ
لهذا، فالتكنولوجيا لها أدوار عديدة ومتضاربة في الوقت نفسه؛ بحيث يمكن استثمار الترسانة التكنولوجية بمختلف تقنياتها، كما وقع في البلدان التي نبتت في تربتها، في تحديد بؤر الوباء ومحاصرته ونشر الوعي الصحي بطرق انتقاله وسبل تجنب، أيضا في ابتكار تقنيات التعقيم وتبادل المعلومات والأخبار الطبية بشأنه… لكن يمكن أن تعلب أدوار عكسية كما لوحظ في مجتمعنا؛ إذ استخدمت في الآن ذاته لتعميم الإشاعة ونشر الرعب والخرافة أيضا.
وأدوار مواقع التواصل الاجتماعي والتكنولوجية عامة اليوم لا تقتصر فقط في الحقل الصحي بل تطال باقي الحقول المجتمعية؛ بفضل التقنية اليوم لم تتعطل سيرورة التعليم؛ بحيث أن التعليم عن البعد اليوم يضع الأمية التكنولوجيا في الواجهة والتعليم التقليدي أمام اختبار حقيقي. بالإضافة إلى ذلك ولم تتوقف الكثير من الأجهزة عن أداء وظائفها كالجهاز الإداري والأمني والمقاولات…الخ. لأن التكنولوجيا اليوم لم تعد مسألة اختيار بل غدت ضرورة وشرط تاريخي مميز لعصرنا، فكل العصور شهدت ثورات كبرى سميت بها؛ بدء بالمجتمعات الزراعية التي نجمت عن الثورة الزراعية، مرورا بالمجتمعات الصناعية التي نتجت عن الثورة الصناعية، وصولا إلى مجتمعاتنا التكنولوجية التي تعيش اليوم على قبضة التكنولوجيا التي اكتسحت شتى مناحي حياتنا الاجتماعية وتغيرت بموجبها العديد من مفاهيمنا كمفهوم الزمان والمكان والسلطة والواقع والصداقة…إلخ

5- هل يمكن القول إن حملة “بقا فدارك” كافية وليس لها ضرر من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، أم نحن بحاجة لقيم أخرى وما هي المؤسسات الي يجب أن تعمل على مسألة القيم؟

إلى حدود اليوم، لا أعتقد أن هناك بديل عن هذا الخيار، فشعار “بقا في دارك” يبقى الخيار الأمثل الذي يوجد بحوزتنا، لكن أتمنى ألا يبقى شعارا وأن يصير واقعا مفعلا، فإذا لم يصاحبه وعي صحي ومسؤولية اجتماعية تجاه بعضنا البعض وتجاه الإنسانية عامة سيبقى مجرد شعار أجوف عديم الفائدة؛ لذلك لا يمكن الاكتفاء بهذا الشعار، بل لابد من التفكير في حلول مبتكرة وفي مدخلات أخرى لتدبير هذه الجائحة على نحو استباقي ومن زوايا عدة. صحيح أن الحجر الصحي يبدو قرارا صحيا احترازيا لكن لا ينبغي أن ننسى أن له تكلفة اقتصادية واجتماعية باهظة، لأن بكل بساطة المجتمعات التي لا تنتج تموت، والأفراد الذين لا يعثرون على قوتهم اليومي يتحولون إلى قتلة وسراق ومتمردين، أي إلى مصدر خطر يهدد الاستقرار الاجتماعي، التاريخ مليء بالعبر والشواهد الدلة على ذلك؛ إذ سبق لحضارات أن فعلت فيها الأوبئة ما لم تفعله فيها الحروب.

فعلى المستوى الاقتصادي لابد من التفكير في الفئات الأكثر تضررا من هذا الوضع الباثولوجي، فما بما أننا أمام معادلة مجتمعية حدها الأول الصحة العمومية والثاني النمو الاقتصادي، لا يمكن في نظرنا لسياسة الحجر الصحي أن تضمن الاستقرار المجتمعي دون التفكير في المزيد من السياسات والقرارات الاحترازية وتنبئية المصاحبة التي تستدف الاختلالات الماكرو والميكرو اقتصادية التي تمس المعيش اليومي للفئات الهشة في المجتمع المغربي. في نظرنا هذا هو التحدي الأكبر الذي يؤرق الآن الأنظمة السياسية ويضعها على محك اختبار صعب في قادم الأسابيع والأشهر، خاصة في الدول الذي ينخفض فيها معدل الادخار الأسري كما هو حال الأسر المغربية الهشة التي ستفاقم جائحة كورونا من معاناتها أكثر كلما عمر الوباء طويلا وطال انتظار البحث البيوطبي لابتكار علاج أو لقاح يضع حدا له.
على المستوى الاجتماعي والقيمي، يمكننا القول بأن حدث كورونا هو اختبار حقيقي لنظامنا القيمي الذي يوجد على مفترق الطرق بين القيم الفردانية الليبرالية وبين القيم الجماعية التقليدية. ما يمكنني التأكيد عليه، هو أن مواجهة هذا الوباء لا تكون بالحجر الصحي والتعقيم والكشف المبكر والبحث المخبري وإنما أيضا بالتعضيد القيمي لأن القيم هي صمام الأمان والإطار المرجعي المحصن للضمير وموجه للسلوك، فعبر المبادئ والمعايير القيمية يحافظ المجتمع على وحدته ويضمن ترابطه وقوته ويتمكن من التغلب على المصائب والكوارث التي تصيبه.
وعبر الاستثمار في منظومتنا القيمية التقليدية واحياء العديد من قيمها التي بدأت تتراجع منذ عقود، لصالح قيم الفردانية “المرضية” وليس الفردانية العقلانية، ومن بين القيم التي ستوجب من جميع مؤسسات التنشئة الاجتماعية والقيمية تعزيزها قيم التضامن والتعاون والتآزر الاجتماعي وقيم الجوار والتآخي…، ولا ينبغي أن ننسى أن مثل هذه القيم تتقوى أكثر في لحظات الأزمة حينما يشعر الكل أن بقائه وصحته لم تعد بيده بل أصبحت بيد غيره، وهو ما يقوي من مشاعر الغيرية والتعاطف والترابط الاجتماعي. وفي تعطل المؤسسات التربوية والتعليمية يبقى اليوم الرهان معلق أكثر على مؤسسة الأسرة والمؤسسات الإعلامية الرسمية وغير الرسمية والفضاء العمومي الافتراضي بشبكات التواصل الاجتماعي من أجل إحياء هذه المشاعر وتقوية تلك القيم والاستثمار فيها ليتحد الكل مع الكل من أجل تشييد استراتيجية مواجهة وقائية جماعية وفعالة من شأنها الحد من الانتشار الاجتماعي لجائحة كورونا-كوفيد 19 في أفق القضاء عليها نهائيا.

*صلاح الدين لعريني
أستاذ باحث في سوسيولوجيا الصحة وأنثروبولوجيا المرض
مختبر السوسيولوجيا والسيكولوجيا
جامعة سيدي محمد بن عبد الله
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، المغرب
Salaheddine.laariny@usmba.ac.ma

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)