أزناي يكتب: النموذج التنموي الجديد: ربط بين الواقع الداخلي والتحديات الخارجية

قلم: منير أزناي

 

في مناسبات عديدة خلال السنوات القليلة الماضية خاطب صاحب الجلالة الملك محمد السادس الشعب المغربي، وقد كان في كل مرة يحرص على أن يحرك النقاش العمومي حول التنمية بالمغرب، والنموذج الذي يعتمده المغرب بها، فكانت أسمى عبارات التوجيهات الملكية اعتبار النموذج التنموي نموذجا متجاوزا وأن الخطط الرسمية والفاعل السياسي الذي ينتجها لم يعد يتوفر على الحلول والطرائق التي من شأنها أن تخلق الدينامية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة، ومن هذا المنطلق عبرت الخطابات الملكية السابقة صراحة على ضرورة صياغة نموذج اخر قادر على خلق التنمية : كما ينشدها المغاربة شعبا ومؤسسات.

 

وفي خطاب العرش لسنة 2019 دعا صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى إحداث لجنة استشارية تشرف على إعداد الخطوط العريضة للنموذج التنموي الجديد بعد عدم قدرة الاحزاب السياسية التي استشكل عليها الفعل الاقتراحي في هذا الإطار و بعد ممهدات و دوافع شكلت أسبابا داعية إلى هذا الإحداث، منها ما هو خارجي دعت إليه التزامات المغرب الخارجية و المؤسسات المقرِضة ومنها ما هو داخلي دعت إليه الضرورة والحاجة لخلق تنمية تجعل المغرب قادرا على تلبية حاجات مواطنيه.

 

وقد قامت هاته اللجنة محفزة باعتبارات عديدة أولها الإجماع الوطني على حقيقة الحاجة إلى نموذج تنموي وثانيها التفات المغاربة بكل تلاوينهم على الاهتمام بهاته اللجنة وتحينهم الفرصة للاقتراح والتوجيه والمشاركة.

 

وعلى المستوى المنهجي، فقد اعتمدت هاته اللجنة أسلوبا متقدما في الاستماع لكافة المغاربة ممثلين بالمؤسسات المدنية والرسمية، الاقتصادية والثقافية، النقابية والمقاولاتية، بل وحتى الفاعلين الذاتيين، من مؤثرين و ناشطين، حتى وإن لم يكن الانتقاء مفضيا لفعل اقتراحي حقيقي لكن فالحقيقة تقال، كان العمل جماعيا وكانت المساهمات متفائلة، وتضامن الجميع لأجل إخراج تقرير حقيقي ينعش آمال المغاربة في تلقي نموذج تنموي ناهض وقوي وقادر على ترميم التصميم الاجتماعي لمغرب اليوم بما يضمن العدالة والعيش الكريم للجميع.

 

والحاصل أن التقرير الذي خرج قبل أيام على كل شجاعته و حُسن ما جاء فيه، فإنه يبقى قاصرا جدا ولا يغطي ما كان ينبغي أن يغطيه، ولا يتّصف بما كان أغلب المحللين ينتظرونه من هاته اللجنة من دقة اقتصادية و لغة إحصائية و قوة اقتراحية و بعد نظر و شمولية مجالية لكافة مناطق المغرب وقطاعاته بما ينهض بالمغرب نهضة حقيقية.

 

والذي يتابع ما يجري في مغرب اليوم أو ما يجري بينه وبين خصومه في قضاياه العادلة يساءل نفسه مسائلة المصارح : هل نستطيع بمغرب اليوم وقدرته السياسية الداخلية وخططه التنموية الآنية والمستقبلية أن نواجه كل هاته الإكراهات، سواء الصحية أو الاقتصادية أو العسكرية الأمنية أو الدبلوماسية الخارجية ..

 

إن الجواب الذي تفرضه وطنية المغربي الحقيقي وغيرة المثقف الحقيقي على حوزة هذا الوطن ومستقبله هو : لا.

 

والمتابع أيضا للصراع السياسي بين الاحزاب المفصول عن مصلحة الوطن والمواطنين والمغرد خارج السرب سيفهم أيضا أنه لا يمكن لهذا النموذج التنموي الذي صدر تقريره ولا لهاته الرهانات التي يخوضها المغرب مدافعا عن سيادته وموقعه أن يخرج المغرب فيهما فائزا بهاته النخب السياسية وبهاته الرؤى التنموية التي لا تعدو أن تكون تقارير بسيطة تشخص وتقارن ليس إلا، ولا تملك القدرة على خلق التنمية الحقيقة التي يمكنها أن تنهض بالمغرب من الداخل ليكون قادرا على مواجهة الخارج.

 

والحقيقة هاته، تفرض علينا جميعا أن نذكر الدولة المغربية ومؤسساتها -التي تتملكنا الغيرة الكبيرة عليها ملكا وحكومة وبرلمانا لأنها في نهاية المطاف وجه المغرب الرسمي ذلك أنها تمثل مواطنيه وهيئاته بلا أي استثناء- أن نذكرها أن التنمية الحقيقية لا بد لها من مؤسسات مشرعة قوية وبرلمان قوي يحمي ويحصّن، يدافع ويترافع … يقاوم و يحارب تماما كالحرب العسكرية لكنها سياسية.

 

ولا بد للتنمية الحقيقية أيضا من فعل ديموقراطي انتخابي جاد وسامٍ يصالح المواطنين مع مؤسساتهم و يقوي اهتمامهم بمصالح بلادهم العليا، لأن إرادة الشعوب هي التي تحمي من أخطار الأعداء الخارجيين، ولأن النخب السياسية هي الدعامة الأساسية والخط الأول للتنمية، فهي التي تقترح، وهي التي تشرف على التنفيذ وهي التي تراقب حال العمل وتحاسب حال الفشل، وهي النخب التي عندما لا تكون مؤهلة لا يمكننا أن نوكل إليها مهام تنزيل نموذج تنموي فشلت في تنزيل سابقيه، لأن المنطق يقول أنه لا يمكن انتظار نتائج مختلفة من الرهان على نفس الأشخاص ونفس النخب وبنفس الطرائق.

 

لا بد أن نذكر الدولة أيضا أن أهم تمظهرات التنمية هي الترويج للإنجازات الحقيقية التي يقوم بها المغرب ملكا وحكومة ومؤسسات، وأن تسوق بشكل يحترمها ويحترم المغاربة بواسطة نخب اعلامية حقيقية ووطنية تحترم المؤسسة الملكية ومؤسسة الحكومة ومؤسسة البرلمان، وتعيد الوهيج السياسي لمؤسسات المغاربة بلا شعبوية ولا خطاب ساقط يساهم في خلق الهوة بين المواطن ووطنه، والتنمية تنهار كما هو معلوم لما تتوسع الهوة بين شعب ووطنه.

 

إن رهانات المغرب، داخليا وخارجيا تفرض أن تكون للدولة الارادة على تقوية الجبهة الداخلية و خلق ما يحصن اللحمة بين القيادة والمواطنين وهو ما يمكن أن نلخصه في جملة واحدة : عملية سياسية جادة بنخب مكونة تفرز سياسات عمومية و تنموية حقيقية تحقق النماء وتضمن الكرامة، فالدول التي تقوي داخلها هي في الحقيقة لا تصنع شيئا غير انها تبدد أي خطر خارجي يمكنه العبث بالاستقرار الذي بنته سنين طويلة وناضلت لأجله.

 

والخلاصة التي يمكن أن نخلص إليها هنا هي أننا عندما نكون عاجزين على صياغة نموذج تنموي حقيقي يقوي الداخل ويشمل الجميع فإننا حينئذ نخلق مغربين واحدا يسير بسرعة كبيرة إلى الأمام وآخر راكد أو يسير بسرعة كبيرة للخلف، وهو الواقع الذي يقيّد إرادة الدولة عندما تخوض رهانات كبرى خارجية. لأن وطنا بلا تنمية هو وطن مهزوم ولا يمكن لأي مغربي أن يقبل بهزيمة المغرب لا ملكا ولا حكومة ولا شعبا بكل تلاوين الشعب و أطيافه مهما اختلفت تلاوين هذا الشعب مع المؤسسات ومهما عارضت او انتقدت.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)