رحلة مجانية إلى سواد الثلوج

محمد بوهريد

فجأة، ضرب فيسبوك تسونامي أبيض من مختلف مناطق المغرب. لكن هذه الأمواج العاتية من الصور شبه البيضاء لم تعد تفاجئ أحداً. تماماً مثل تهاني الأعياد وصور الشواطئ في الصيف، قبل عام 2020 طبعاً.

كثير من الصور التي شكلت التسونامي الأبيض بدت كأنها استُلت من الأرشيف لتعزية النفس التواقة إلى التجول في ظل حجر صحي يكتم على الأنفاس. ما يحسب لهذا التسونامي أنه مسالم لم يخلف ضحايا، لكنه يحجب أو على الأقل يساهم في إخفاء وجه آخر للثلوج كالح السواد.

لكن لا بد من كلمة حق. ليس من الإنصاف مطالبة من تكبد عناء السفر في طقس سيئ من أجل الاستمتاع بمناظر بيضاء تسلب الأعين بأن يرى بالأعين نفسها أشياء لا تعنيه وليست من غايات سفره. ما يعنيه جمال الثلوج ولا يسألون عما تخفيه تحت بياضها الآخاذ من أنين.

خلاصة القول إن التسونامي الأبيض خادع. لذلك، نعرض عليكم هذه الرحلة المجانية إلى سواد الثلج لتكتمل الصورة، ليس فقط لمن اقتطعوا من الحجر الصحي لحظات فسحة وسط الثلوج، بل أيضاً لمن اضطروا للبقاء في بيوتهم مكتفين بمشاهدة فيسبوك يتشح بالبياض. اطمئنوا فالتذاكر كافية للجميع.

“سميقلي”

قلة ذات اليد قد تدفع الإنسان إلى الإتيان بعجائب وغرائب. للتخفيف عن أنفسهم، يتسلى سكان المناطق التي تضرب سنوياً موعداً مع الثلوج دون أن تكون لهم القدرة على التحضير بما يليق لاستقبال الضيف الثقيل بمعلومة يعلمون يقيناً أنها غير صحيحة. يقولون إن الثلوج تقلل من برودة الأجواء وتقذف صقيعها إلى المناطق المجاورة غير المتشحة بالبياض. الغريب أن سكان مراكش مثلاً يذوقون الويلات من البرد كلما اكتست الجبال المحيطة بالمدينة بحلة بيضاء. ومع ذلك، فإن الجزم بأن الثلوج تأتي أيضاً محملة بالدفء يشبه إيمان الأطفال الصغار في الأعراف بأن مجرد قول كلمة “سميقلي” متبوعاً بحركة خاصة لليدين مفتاح سحري إلى جنة الدفء.

لماذا تبرز هذه الغرائب؟ السبب بسيط: قلة الحيلة. أو كما يقول المثل المغربي: “العين بصيرة واليد قصيرة والجلوس على الحصيرة”. بيد أن الحصيرة نفسها قد تكون أمنية عصية على التحقق في الجبال النائية المنسية.

إذا مرض إنسان او دخلت امرأة مرحلة المخاض فذلك مشهد مسرب من يوم القيامة لا يعلم حقيقته إلا من حضره دون أن يملك القدرة على فعل شيء.

تنبيه هام: لا مجال للتفكير في ارتداء حذاء دافئ ودولاب كامل من الملابس الصوفية يخيل للناظر إلى صاحبها أن وزنه زاد 20 كيلوغراما في رمشة عين.

في المقابل، مسموح بارتداء ملابس لفحتها شمس الصيف وغيرت ألوانها، وأحذية بلاستيكية تحولها قسوة البرد إلى أداة تعذيب للقدمين.

وماذا عن المعاطف؟ لم تصل بعد إلى هنا. المجد والخلود للجلباب الذي تقضي النساء والعجائز الصيف في خياطته بمواد طبيعية وأدوات بدائية. إذا استفدت من الباقة العائلية في هذه الرحلة، وهي بالمجان أيضاً، ستتاح لك فرصة نادرة لنسيان ألمك جراء البرد وأنت تعاين فلذة كبدك بخدود محمرة/مخدرة وأطراف ترتعش دون أن تستطيع القيام بأي شيء عدا زيادة الحطب في “الكانون” لزيادة حرارة المكان والتحذير من مغبة اللعب بالثلج. كذلك لا تتفاجأ بطفل يمشي بلا بنطال وأمه تتبعه لتعيده إلى دفء حضنها، وأطفال يتراشقون بالثلج قبل أن يجبرهم الصقيع على العودة إلى أقرب نقطة من “بيت النار” لكي لا يتجمدوا بشكل تام.

مزايا الإقامة

الفنادق هنا ضرب من الخيال. هناك نزل تناسلت على أطرف طرق السياح، لكنها غير مشمولة بهذه الرحلة. ببساطة، لأن الإقامة فيها محجوزة بالكامل لمحبي بياض الثلج المحرومين من سواده.

باقة الرحلة لا تتحدث عن أساسيات العيش الكريم. لذلك، البيوت هنا مجاز. وأجمل ما فيها الغرفة حيث توقد النار. تكون ملتقى للأسرة كلها وتتحول إلى فضاء تختلط فيه الذكريات بالقصص وشغب الأطفال بصوت المياه وهي تغلي فوق النار. أما أوقات الوجبات فمعلومة، تماما مثل الفنادق.

وما الوجبات المتاحة؟ “اقبلوا ما قسم الله لكم”. شعاركم “القناعة كنز لا يفنى” وسلاحكم خبر الأجداد والآباء في تدبير ندرة الغذاء على مدار فصول السنة. يعتبر هذا التوضيح إبراء لذمة اللجنة المنظمة للرحلة من نقص في أي وجبة أو حجبها تماماً.
بما أن المكان كله ثلاجة في الهواء الطلق، لا تحلموا بفتح ثلاجات صغيرة لإرواء عطشكم بمياه معبأة بعناية في قنينات سعة بعضها “جغمة” واحدة.

بالعودة إلى كتيب الإرشادات، يتعين على كل مستفيد/غارق في الرحلة أن يتعلم كيف يتدبر أمره على طريقة أهل البادية. للأسف، الماء هنا مهمة النساء حصرا إلا في حالات نادرة. حرصا على سلامتكم تم حظر هذه التجربة. السقيا هنا قطعة من جحيم.

وماذا عن المعاطف؟ لم تصل بعد إلى هنا. المجد والخلود للجلباب الذي تقضي النساء والعجائز الصيف في خياطته بمواد طبيعية وأدوات بدائية.

في الصباح، يتجمد الماء في صنبور الوقاية الوحيدة في المنطقة. من حسن الحظ موجودة على بعد مئات الأمتار فقط. لذلك، لا مجال للذهاب إلى السقاية قبل أن يصل نبأ عودة الماء إلى التدفق من الصنبور. قبل ذلك، يمكنكم مشاهدة القادمين من قرى تبعد بضعة كيلومترات راجلين وعلى دواب يحملون ما استطاعوا من قراب للاستسقاء. هذه رحلة يومية بالنسبة إليهم، بيد أنها في الأيام التي تسود فيها الأرض بالثلج يتفاقم ألمها وتتحول إلى عذاب لا يطاق. لذلك، رجاء زنوا الماء بميزان الذهب قبل أن ترووا عطشكم.

وماذا عن الغسيل؟ هذه خدمة مؤجلة إلى أول موعد مع الشمس الدافئة. لا ملابس لغسلها، الجميع في حالة طوارئ لمواجهة البرد.

أنشطة ترفيهية

حرصاً على سلامتكم، وقع الاختيار على نشاطين ترفيهيين فقط. لكنهما جزء أصيل من يوميات السكان الأصليين، إن جاز التعبير. الأول إزالة الثلوج المتراكمة فوق السطح، والثاني الاهتمام بالماشية. الأول قضية حياة أو موت بالنسبة إليكم، ما يعني أن المشاركة فيه إجبارية حتى لا يقع السطح فوق الرؤوس. وسنقدم لكل مشارك هدية عبارة عن آلة خشبية بدائية. أوفركم حظا سينهي المهة قبل أن تتخشب يداه ويصبح غير قادر على تمييزها عن مجرفة الثلج.

أما الاهتمام بالأبقار والماعز والدجاج فسيكون نشاطا اختياريا.

هذه رسالة من رب إحدى الأسر يحاول تحفيزكم على المشاركة: “اعلموا أنهم ليسوا مجرد حيوانات. علاقتنا بهم وثيقة جدا. نعتني بهم كما نفعل تجاه أبنائنا. وفوق ذلك مصيرنا مشترك: إن هلكوا هلكنا وإن عشنا عاشوا. بيد أن الدواب تصبح محاصرة في إسطبلاتها شديدة السواد ولا مغيث لها بقوت أو ماء إلا أصحابها. لذلك، لا تستغربوا إذا رأيتم نساء في خريف العمر تقوست ظهورهن ينتشلن أرجلهن الغرقة في الثلوج ليصلن إلى حيواناتهن المحبوبة”.

الكابوس

المرض والمخاض محظوران تماماً خلال هذه الرحلة. كل ما  تضمنته هذه الرحلة من معاناة وتيه بين البحث عن الدفء وتقليص الحمل عن الأسطح وتفقد المواشي بحثا عن خلاص جماعي يصبح نعميا قياسا بهذا الجحيم. إذا مرض إنسان أو دخلت امرأة مرحلة المخاض فذلك مشهد مسرب من يوم القيامة لا يعلم حقيقته إلا من حضره دون أن يملك القدرة على فعل شيء.

 

نقلا عن العربي الجديد

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)