وكلاء الرحمة 

       لا يفترض أن تثير صور وحكايات الموت سوى مشاعر الأسف والحزن، وتغمر وجدان الإنسان بالأسى على الفقيد وأحبته من بعده، وتذكره بالمصير المحسوم لكل كائن دونما تمييز أو حصانة، وإن كان التأثر بموت الأقرباء والمعارف أمرا مفهوما ومتوقعا، فإن بطولة المرء هي في المقدرة على الإحساس بثقل مصيبة الموت عندما تنزل بالغرباء والمخالفين، والمؤمن أولى وأحق بموضع السبق في هذا الباب، ذلك أنه المعني بالحث على البر والإحسان مع غير المؤمنين بما يشمله ذلك من حفظ أنفسهم وأموالهم، وتوقير ذكراهم حالة وفاتهم. بل إن مشاعر التنافس أو العداوة نفسها يفترض أن تنتهي مع إعلان النعي، أما ردود الفعل الشامتة بالموت أو المبتهجة به فلا يمكن أن تصنف سوى ضمن الأفعال غير السوية.

إظهار التعاطف هذا السلوك الإنساني بامتياز والمقتصر على بني البشر حري به أن يظهر في حالة الموت، المصيبة الكبرى التي لا تعادلها مصيبة، والتي يستوي أمامها الجميع، والتي لا تحتمل القياس والمفاضلة والبحث في التفاصيل لإنتاج ردود أفعال بمقاييس محددة حسب جنس ودين الهالك، أو طريقة هلاكه، فإن عجز المرء عن إظهار التعاطف وكان قلبه منزوع الرحمة فأولى له أن يشغل نفسه بالتأمل في حقيقة الموت من التعرض للميت، والاجتهاد في محاولة إثبات أحقيته بالجنة أو النار.

في مجتمعنا وكلما انتشر خبر وفاة شخص قال في حياته ما يخالف الخط العام المسموح به، أو أتى أفعالا صنفت في خانة المرفوض، أو حتى ظهرت على شكله ونمط حياته أمور غير مألوفة، انطلق النقاش الأجوف حول جواز الدعاء له بالرحمة من عدمه، وتنازع الخصوم وتبادلوا التهم والسباب، ليتحول حدث الموت المهيب لفرصة مجانية للتناحر والتباعد أكثر، وإطلاق الأحكام وبدء التصنيف، مع أن بحثا صغيرا يغني عن كل هذا النقاش من أصله، أو – على الأقل – يحصره في دائرة الأكفاء الخليقين به، ذلك أن أهل العلم الشرعي أنفسهم لا يدعون حدوث إجماع في قضية تحريم الترحم هذه، هذا مع تنويههم الدائم بالفرق بين الترحم والاستغفار المنهي عنه بالنص، فضلا عن الخلاف الحاصل أيضا في حجية الإجماع من أصله.

وإن كانت هذه معركة علمية لها أصحابها ومقامها وآدابها التي تحكمها، فإن النكبة أن تتحول لقضية تلوكها العامة بلا علم ولا دليل ولا هدف سوى تغليط المخالف وإخراج أفواج من عباد الله من دينه قسرا فقط لأنهم ادعوا بالرحمة لميت ربما بدافع العادة أو الشفقة.

والغريب أن الذين يرفضون الدعاء بالرحمة على الأموات من غير المسلمين عامة، يرجعون ذلك لما قرروا أنه كفر بالله وعصيان له وجرأة عليه، وتعد على حدوده، فينبرون للعب دور محامي السماء متغاضين عما يقترفون هم من تألي على الله وادعاء العلم بقلوب عباده والتطاول على توزيع رحمته ومنعها، وتقرير مآلات الناس وحظوظهم من الرضى أو السخط.

وأخيرا، لا أعتقد أن علينا اليوم لحسم هذا الجدل العقيم سوى الركون والاحتكام لمقال نبي لله عيسى عليه السلام في أواخر سورة المائدة: ’’ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‘‘.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)