آفة حارتنا النسيان 

        إنها لعنة الذاكرة القصيرة، ذاكرة العوام.. ذاكرة السمك التي يصير من المستحيل معها البناء على شيء لأنها ترتد للمربع الأول كل مرة.. وقد سبق وقال المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي أن “ذاكرة العوام ثلاثة أيام” ليرد عليه أحدهم بأن ذاكرة النخب أو (المثقفين) يوم ونصف! وهو محق تماما، فيبدو أن النسيان عامل مشترك بين الجميع وليس حكرا على العامة، إنه تيمة مجتمع بكل مكوناته، كما عبر عن ذلك الروائي نجيب محفوظ في روايته “أولاد حارتنا”: “ولكن آفة حارتنا النسيان”..!

وآفة النسيان هذه هي ما يسمح بتكرار المآسي والجرائم، وبالتعرض للخداع وتصديق الأكاذيب في كل مرة، تماما كما يحدث اليوم عندما يحتفي أقوام منا بدماثة وسماحة جهاز الأمن عندنا مقارنة بنظيره الأمريكي إثر تدخلاته العنيفة ضد المتظاهرين على مقتل مواطنهم جورج فلويد في جريمة عنصرية.

والأمر هنا لا يتعلق بمفاضلة من نوع ما، فالجرائم تبقى شنيعة ومرفوضة أيًّا كان مقترفها وزمن اقترافها، لكن النبرة الطاغية في تناول هذه الأحداث تؤكد ظاهرة الذاكرة القصيرة، جالبةُ اللعنة والسخرية على أصحابها. ومحاولة عقد المقارنات تتعمد إغفال واقع راسخ منذ عقود، وهو كون المخزن (كدلالة على الأجهزة الأمنية) لم يلتزم يوما بالقواعد في التعامل مع المواطنين على جميع الأصعدة، خاصة منهم المحتجين والمنتفضين، وليس حتى أفضل حالا من نظرائه في بلدان أخرى.. عقيدة القمع والإهانة هي واحدة لا تحتمل المفاضلة.. فلا إهانة أقل ضررا من أخرى، ولا اعتداء أكثر قبولا من آخر، ولا قليل قمع أكثر استساغة من كثير.

وإن كان لابد من إنعاش الذاكرة، لإعادة ترتيب الأحداث والتخلص من العمى المؤقت التي تسببه المشاهد القادمة من الولايات المتحدة، فيكفي الرجوع للوراء أياما قليلة وإعادة مشاهدة كيفية تعامل رجال السلطة لفرض حالة الطوارئ، العشرات من الاعتداءات الموثقة، والمجانية في ظرف يستدعي التكاثف وضبط النفس.. ويمكن الرجوع بضع سنوات لا تتعدى الثلاث فقط للوقوع على أمور أفظع.. من أرشيف قمع حراك الريف مثلا.. ليس بداية بمقتل الشاب عماد العتابي الذي لم يجف دمه بعد، ولا انتهاء بالاعتداء الجنسي على قائد الحراك وإهانته وضربه كما أورد ذلك في تسريب صوتي من داخل محبسه جر عليه أصنافا أخرى من التعذيب الممنهج، ويمكن بعدها التعريج على فض احتجاجات حراك جرادة وعملية الدهس المتعمدة الموثقة بفيديو مثبت الصحة كان ضحيتها طفل ما يزال فاقدا للحركة وسط رفض لتبني حالته وعلاجه أو على الأقل فتح تحقيق في واقعته وتجريم المسؤولين عنها، وطبعا لا حاجة للتذكير بالعنف الحاصل أثناء المداهمات وإشهار السلاح أثناء الاعتقال، والضرب والرفس الذي يشمل الجميع. التعنيف الذي تسبب بمقتل الرجل الستيني السيد عبد الله حاجيلي يجب أن يتذكره أيضا أولئك الذين يعتقدون أن مقتل جورج فلويد في الشارع العام تحت ركبة رجل الشرطة ذاك سابقة فظيعة.

أخلاقيا، تنحصر مهمتنا جميعا في الانتصار لثقافة حقوق الانسان، لا أن نضع رجلا على أخرى لنقارن أي الأنظمة أشد قمعا وأي جهاز أمن أكثر فتكا وكأننا بصدد الرهان على سباق خيول، ونحن بدرجة أولى معنيون بما يحدث في بلدنا، وليس علينا المقارنة بما يحدث في أنظمة أخرى كنوع من التبرير والتطبيع مع ممارسات ستبقى مرفوضة قلّت أو عظُمت. وعلينا أن نشحن الذاكرة كل فترة حتى لا نسمح للنسيان بتهوين مصائبنا والتصالح مع مرتكبيها.. وإلا حرمنا من نتائج التراكم، وسجننا داخل نفس الدوامة لا نبرحها.. نعيد إنتاج محنة سيزيف.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)