منصات التفتيش

لقد ظل الناس على مدار قرون يقارعون الحجة بالحجة، ويدحضون الفكرة بالفكرة، ويبطلون الباطل بالدليل ويبنون على ما استقر من القول الحق المتفق مع المنطق والعقل، هكذا استمرت هذه المعركة النزيهة التي يتساوى فيها الجميع، أصحاب الأفكار ومخالفيهم، وهم معا خدم لغاية أسمى هي الحق والخير، واستمر ذلك رغم تلك الفصول من التاريخ التي يفقد فيها الرجال عقولهم ويحتكمون للحديد، حتى وصلنا لما نحن عليه اليوم. عالم يسهل فيه البحث عن الحقيقة، ويمكن فيه التعايش من رؤى مختلفة دون أن يؤثر ذلك على ماهيته أو استمراره.

هذه الأفكار ونقيضها هي ما يصنع هذا التراكم الذي نسميه حضارة، وما ننفك نرفع لها الألوية والأناشيد، ونتفاخر بها بين الأمم، وأي مجتمع، أو تجمع، أو جماعة اتخذ أفرادها موقف الإقصاء تجاه أفكار بعضهم، أو مواقفهم، أو ردودهم وآرائهم تجاه بعض سيكون نصيبه الاندثار، بعد أن يقتل آخر مخالف منهم آخر مؤيد.

وإنه لأمر مؤسف أن نعيش في زمننا هذا ما يشبه تجربة رقمية من محاكم التفتيش، أبطالها يفترض أنهم من المتعلمين الذين يستطيعون ولوج الانترنيت واستعماله، فإذا بهم يتحولون لجيش من صائدي الساحرات يتعقبون كل قول قيل بقصد أو بدونه ليهاجموا صاحبه ويحرروا بشأنه الوشايات، غير مستوعبين أن هذه المواجهة القائمة على السب والشتم والاستنجاد بالأمن والقضاء هي دليل على خواء كبير، ورهبة غير مبررة، وهي أيضا دليل إفلاس وانعدام المقدرة والجرأة على الخوض في سجال عقلاني، وهي إلى ذلك علامة على جبن مستتر.

وكان الأمر ليغدو أقل ضررا لو أنه يحدث في واحدة من البلدان التي يعيش مواطنوها في شروط أدمية تحترم كرامتهم وتلبي حاجاتهم، لكن أن ينشغل مواطن مهدور الحق في الحياة والقوت بتوريط صنوه في متاعب قضائية بسبب كلمة أو موقف فهذا ولا شك أمر يحيل على خلل نفسي ما، إنه يبدو كمرض يصيب القوم الأقل حظا في تحصيل أولويات العيش فيهربون من هذا الواقع الخائب لمعارك خاوية وانتصارات وهمية. ولو وفر هؤلاء هذا الجهد والوقت الذي يبذلونه في التربص ببعضهم والتلصص على جلساتهم ومسامراتهم، وتفسير كلماتهم ونزواتهم بنية الأذى، وانتبهوا لأمور لا خلاف على أهميتها وراهنيتها لكان أفضل للجميع.

إن الأيديولوجيات هي محددات توجه الفكر وترسم معالم كبرى لحلول المشاكل الراهنة، وليست ولا يجب أن تصير آلهة جديدة تحشد الأنصار والمتتبعين ليقتتلوا باسمها، أما الدين فغاية أسمى من تقسيم الناس واستعمال بعضهم لأذية وإذلال البعض، ونحن مع هذا وذاك نواجه من شطط السلطة ومن ظلم القائمين على شؤوننا ما يكفي.. فلم قد نفاقم الأمر بالتحول لمجرمين يمارسون نفس الأدوار الحقيرة التي نئن من قسوتها، ونتحرى فرصة للانتفاض عليها؟

وليس خفيا أن متصدري هذه الأدوار -أعلموا ذلك أم جهلوه- ليسوا في النهاية سوى جمهور لأيدي أخرى تحركهم وفق الأهواء التي لا تهمها الحقائق والقناعات، وبذلك لا يستقيم أن يعتبر كل من يتخذ موقفا موغلا في الدفاعية ضد رأي أو فكرة أنه يتحرك وفق قناعاته، إنما هي في واقع الحال صراعات تخص الحيتان الكبيرة والتي لا تأبه لجمهورها نفسه وقد تضحي به كما فعلت بغيره على محراب المصالح متى اقتضى الحال ذلك.

لا يمكن أخيرا إلا أن نتمنى أن يكون اللجوء للشكايات الالكترونية مجرد موجة عابرة في تاريخ ’’السوشيال ميديا‘‘ المغربية، وأن لا يستمر الأمر حتى يصبح بدوره عقيدة، تجر علينا أمورا أفظع.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)