دخلنا العولمة من باب الوباء

..تدريجيا بدأت الأمور تتضح ، “الكورونا” فيروس حقيقي وليس مادة إخبارية للتحلية بعد وجبة الغداء ، وباء بدأ يدق بابنا نحن أيضا ، هناك مرضى مغاربة بهويتهم ومدنهم وأسمائهم ، قريبون منا ، من الممكن أن يكونوا نحن …من هنا دخلنا العولمة من الباب الكبير ، فحينما يتعلق الأمر بتملك الطبيعة وتدميرها نكون أمام سوق غير مبال بعدم المساواة كما عبر ألان تورين في نقده لمفهوم الحداثة ، لكن أمام  الأوبئة وغضب “الطبيعة ” نكون سواسية . وفي نقده للتقنية المفرطة يقول “ميشال سير” ” لقد أصبحنا بحكم تملكنا للطبيعة ضعفاء أمامها ”  وإذا كان في القديم يأخذ الخضوع للطبيعة طابعا محليا، أما اليوم يضيف “ميشال سير” فسيكون عالميا . إنّ أهم درس يمكن أن نستوعبه اليوم هو أن الطبيعة أصبحت بحكم وباء كورونا شيئا مشتركا ، و الخضوع لها هو الباب الكبير للعولمة بالمعنى الصحيح .

 

كيف يمكن لمواطن بسيط أن يتمثل هذه الحقيقة وهو الذي كان يعتقد دائما أن الآفات المعاصرة مرتبطة فقط بالآخر … هذا المواطن الذي يمقت الانتظار في الإدارة، كيف له أن ينضبط في الأمور الاجتماعية والحميمية …هذا المواطن الذي استأنس بالأسواق الأسبوعية المكتظة ، ووفرة الخضر والفواكه ، ويتغنى بجودة المنتوجات” المحلية” ، المواطن الكريم البعيد عن حسابات الزمن وتقديرات الأيام … هو الذي اعتقد دوما أن الماء الصالح للشرب ينزل مدرارا مباشرة من السماء ، هذا المواطن يجد نفسه الآن أمام أزمة كبرى اسمها “كورونا كوفيد 19” ، ويطلب منه أن يبتعد عن الجميع وألا يصافح أحدا .

 

هل سيُفرض معيار “علمي” وكوني كمسافة بين الأشخاص للحفاظ على الأمن الصحي ؟ وبمعنى أصح هل سيدخل المواطن البسيط للعولمة من باب الوباء وهي التي لم يدخلها من باب المساواة  ؟ Haut du formulaire

Bas du formulaire

 

لا يمكن في نظري لمواطن اجتماعي حتى النخاع أن يلتزم بشكل صارم لوصفة طبية تحد من حريته الاجتماعية وهو لم يعش في حياته الأزمات الكبرى ولم يعرف الحروب والأوبئة إلا في دروس التاريخ ، ولم يعشها إلا في الأفلام الأمريكية ، هذا المواطن يجد نفسه الآن أمام أزمة كبرى اسمها كورونا ، ويُطلب منه أن يبتعد عن الجميع وألا يصافح أحدا وهو أبسط سلوك اجتماعي كان يقوم به من قبل بكل تلقائية  ، إن المسافة بين شخص وشخص في التحية كما الاستقبال والوداع ، كانت تتحدد حسب الثقافات و تفسر طبيعة العلاقات وطرق التعامل ، وبالخصوص ماهية الثقافة وأصالتها وتاريخيتها ، وقد حدد ليفي شتراوس الثقافات بخصوصيتها تمييزا عن الخصائص الوراثية ، فأينما كان التميز كانت الخصوصية هكذا كان يقول الأثروبولوجي الفذ ، وعليه فإن أشد ما يتميز به المواطن الاجتماعي كمغربي له ثقافة لها جذور هو القرب الاجتماعي إن لم نقل الالتصاق ، في الطقوس الاجتماعية كما الواجبات الدينية  ، فلنكن ملتصقين حتى لا يتسرب الشيطان ، هكذا يقول المؤمن الصادق ، وعلى هذا الشكل توارث المغاربة تنظيم كل الطقوس الأخرى التي تحضر فيها الجماعة وتتشابك الأيادي وتتعانق الأجساد وتتكرر القبلات في كل المناسبات . هل يمكن أن تصور ثقافة أخرى  وقد داهمنا الوباء كغيرنا من الشعوب  ؟… هل يمكن أن نتحدث عن سلوك واحد كرد فعل ضد انتشار الوباء، هل ستتوحد الخصوصيات في نمط واحد لحماية النوع ؟ هل سنودع العناق إلى الأبد ؟

 

لا يمكن في نظري أن نجد بدائل أخرى للتواصل الإنساني مهما كانت براغماتية وفعالة ، لأن التواصل في هذا المعنى يحمل غايته لكنه لا يشبع القيمة الإنسانية في حمولتها الاجتماعية المتجددة ، أي تلك الرغبة الإنسانية في تحقيق حلم الكائن الاجتماعي ، وهي معركة هذا الكائن الآن…فهو في اعتقادي مستعد للتنازل المؤقت عن حريته من أجل استعادة غايته في الوجود و هي أن يحيا وسط الجماعة ، وهو ما عبر عنه إدغار موران حين سئل عن أول شيء يفعله بعد الحجر الصحي فأجاب ، “أن أعانق أولئك الذين انفصلت عنهم” .

 

 

بقلم : الدكتور فريد بوجيدة

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 1 )
  1. Mustapha oujda :

    لقد فرضت العولمة نفسها على مختلف بلدان العالم مع ثورة الإعلام والاتصال. وهي قطار علينا أن نركبه لا يمكن مقاومته كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري. وذلك من خلال عولمة القنوات الفضائية. والمطاعم الدولية. مكدونالد مثلا. الماركات والفرق الرياضية.فصرت تتعصب لفريق برشلونة وانت نقطن بعيدا عن تلك المدينة بآلاف الكيلومترات. دخلنا عصر العولمة قبل وباء كورونا. أوربا الحديثة نغسها لم تعش حدثا كهذا.

    0

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)