الحجر.. المرض الآخر

بعد شهرين من تطبيق الحجر الصحي لا شيء بقي على حاله، الأمور الأقل أهمية صارت فجأة ضرورة ملحة يوجعنا فقدها، أكثر الأشخاص ثقلا وسخافة بات غيابهم ينغص أيامنا، نمط الحياة الذي كنا ندعوه روتينا ونزيد في المبالغة فنعتبره قاتلا نراه الآن ونحن نستعيد تفاصيله مختزلا لكل معاني الحياة، ولا ندري هل تلك الأشياء مهمة في أصلها أفقدها تكرارنا لها وألفتنا بها هذه الأهمية، واحتاج الأمر لمثل هذا الفراق القسري حتى تستعيد مكانتها في أذهاننا، أم أن الأمر برمته متعلق بقاعدة الممنوع المرغوب فقط.

الكثير من الأفكار امتلكت أخيرا الوقت الكافي لتتناسل وتتشابك.. حكيم صغير قابع في الذهن يدعي أنه يحلل ماهية الأمور ويعيد صياغة المعاني وترتيب الأولويات، هروب من نوع آخر نمارسه بالشرود ضدا في الحيز المحدود الذي حوصرنا داخله، الأمر ليس متعلقا بانشغالات عديدة توقفت.. لا أبدا فالعديد منا كان متفرغا من قبل أيضا، لكن السر في تدبير هذا اللاشغل.. في امتلاك ترف تمضيته بالشكل الذي نختاره، دون أن يفرض من أحد.

والحجر عن الحجر يختلف.. الشهر الأول ليس بتاتا مثل التمديد، والزيادة ليست تشبه هذا الأخير، كل فترة لا تشبه سوى نفسها، ونتفاعل معها ونعيشها بخواطر مختلفة في كل مرة، في البداية أحببنا دور البطل المضحي، ونظرنا للحجر على أنه تأدية لواجب وطني عظيم، قلنا جميعا أننا سنقف في ظهر هذا الوطن ونعينه على رد هذا الهجوم ما دام الأمر لن يكلفنا سوى المكوث في البيوت، وكانت تجربة جديدة وفرصة عزيزة للركون للراحة واشباع حاجة النوم المتراكمة منذ شهور، وفراغ جيد لنقضيه في أنشطة جانبية تافهة دون أسف على تضييع الوقت، والتخلص من الالتزامات الحقيقية.. وهو وقت جيد كذلك لاكتشاف ما تغير داخلنا وإعادة ضبط الأمور.. شكليا على الأقل.

أما التمديد الأول والثاني فكان وقعهما سيئا.. من جهة نفذت كل الأعمال التي كان يمكن أن تنفذ بحماس، ومن جهة اشتقنا لنمط حياتنا العادي على بؤسه، وأيضا ضقنا ذرعا ببعضنا، وبتنا بحاجة لتجديد بعض التفاصيل.. حتى دور المواطن الواعي المتنور صرنا نخرقه متى آنسنا غفلة، تنكرنا لمبدأ المسؤولية الذي حملناه مشعلا للحظة، وانتقلنا من التباهي بالالتزام الصارم بالحجر إلى البحث عن أبسط الأسباب لخرقه، حتى لو كانت هذه الأسباب هي عدم احترام الآخرين له، وفق مبدأ ’’بحالي بحال الناس‘‘، لقد تحول الحجر نفسه لمشكلة، وهو أيضا يمارس علينا ساديته كالمرض تماما، يكاد هذا الحجر يقتلنا ولكننا أغبياء حقا.. فبدل أن ننهيه دخلناه مرتين وثلاث.

لقد تكدر ذلك الصفاء الأول، وانزعج هدوء النفس، وبدأ الحجر يأخذ أبعاد السجن ويكتسي تفاصيله، من قال إن الانسان يتعود، من قال إن عليه أن يتعود أصلا.. هذا السكون مرهق ونحن لسنا معنيين بما يسمونه سفر الروح، بقدرتها على التعالي والتسامي وتخطي الحدود، نحن نريد السفر والتحرك بهذا الجسد/المركبة.. بحاملة الروح هذه.. وغير هذا نعتبره فلسفة لا يصلح لها هذا الظرف نهائيا.. إضافة لأن العزلة ترف لسنا بحاجة إليه نحن أصحاب الطموح المتواضع والضئيل..
ولمواجهة هذه الأسابيع الإضافية من الحجر، والوعيد بتمديدها في كل مرة، نحن بحاجة ربما لخطاب جديد، لبداية أخرى نندهش خلالها من هذا الوضع الغريب ونباشر في استيعابه مرة أخرى، أو لحل قريب ينهي هذا الإحساس الثقيل جدا الذي يجثم على النفس، والذي يسخر من فشل الإنسان أمام هذه الأزمة، الإنسان الذي طوع الطبيعة وجال في الفضاء ولعب في الجينوم وغير قدره، ثم لا يمتلك اليوم سوى التعبير عن آمال مشوشة مؤجلة إلى الشهر القادم فالفصل القادم فالعام القادم.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 1 )
  1. جواد :

    مقال واقعي سلمت أنامل

    0

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)