’’الغَــــرّاقة‘‘

لا أذكر تماما كيف كنا ندبر اختلافاتنا حول الأشخاص أو الأحداث أو الأفكار قبلا، لكننا اليوم صرنا ندبرها بمنطق إقصائي مفلس، حولنا لجوقة من ’’الغرّاقة‘‘، يهدي بعضنا للبعض الأصفاد المجانية، والمتابعات وسنين السجن والغرامات.

إمكانية تقديم البلاغات للنيابة العامة الكترونيا، وتقديم العرائض، فتحت باب فيما يبدو لتغليب الآراء والأهواء والدفاع عن الأيديولوجيات، وتغييب الخصوم، واشغالهم بالمتابعات وجلسات المحاكمة.

الانقسام الذي حدث -على سبيل المثال- حول خرجات الدكتور محمد الفايد بمناسبة جائحة كورونا، هذا الانقسام الذي كانت ساحته مواقع التواصل الاجتماعي ينذر بواقع مخيف جدا، وبدرك سحيق انحدر له جمع كبير منا، تجاوز الهجوم اللفظي والاتهامات والألفاظ الجارحة والشحن والتجييش وانتقل لمرحلة التبليغ، مرة بالدكتور الفايد بدعوى خطورة ما جاء في خرجاته القديمة منها والجديدة، ومرة بالأستاذ أحمد عصيد الذي دخل المعمعة برأي مخالف حول صيام شهر رمضان.

حالة من التجاذب بين الموافق والرافض لتأثير القرنفل أو أهمية السمن، كان يمكن أن تبقى في هذا المستوى من التداول، لولا أن انبرى كل من الفريقين في الدفاع عن طرحه وتجريم الطرف الأخر فيما يشبه حالة الانقسام المشهورة في النموذج المصري: ’’إحنا شعب وإنتو شعب‘‘، وصل معه الحال لطلب تدخل القضاء للفصل بينهما.

وحالة الدكتور محمد الفايد تصلح مثالا جيدا لكنها ليست الحالة الوحيدة، ومن خلالها يمكن التعريج على حالات أخرى قرر المغاربة التبليغ عنها بدل تصحيح مغالطاتها أو تفنيدها أو تجاهلها حتى وإبقائها في الظل.

ومع ظهور هذه النزعة الغريبة، ربما تصير خدمة تقديم الشكايات عند بعد وبالا على النيابة العامة، التي سيكون عليها اليوم دراسة عدد كبير من الشكاوى التي يقدمها مغاربة ضد مغاربة أخرين لا يروقونهم، أو يقدموها ترضية خواطر، أو شكلا من الدعم لشخص أو صفحة يتابعونها، أو نوعا من رد جميل أو تقديمه.

هذا الواقع الجديد يطرح الكثير من الأسئلة الملحة، فهل صرنا فعلا عاجزين عن تقبل الأفكار والآراء نحن الذين نتغنى بتعدد روافد الثقافة وتنوع الاتجاهات؟ وإلى أي حد ترتبط هذه الممارسات بظروف الحجر الصحي الذي نعيشه بسبب تفشي وباء كورونا، وهل عزز الفراغ والانكباب على متابعة أخبار مواقع التواصل الاجتماعي طوال الوقت مثل هذه الممارسات؟ وكيف تمكنا بسهولة من التنكر لكل المشترك الهائل بيننا واصطففنا للتقاتل بسبب آراء عابرة لأشخاص من العامة؟

وريثما نجد الأجوبة، ولتجنب حدوث الأسوأ، علينا بجد مقاومة نزعة ممارسة التسلط، والكف عن محاولة التحكم عبر فرض الوصاية على عقول الأخرين وآراءهم، والأخذ بالعلم وترك المواقف، والتوقف عن الاعتقاد بأن تبني طرح معين في صف أحدهم ضد الأخر هو اصطفاف مع الحق المطلق أو هو دفاع عن منهج الله.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)