خواطر الحجر الصحي

هؤلاء أهلك، أبواك اللذان أنجباك وتعهداك لأزيد من عشرين عاما، وهذا الشيب الذي تراه يغزو رأسيهما حقيقي، هما لم يعودا شابين بعد اليوم، أنت تستغرب كيف لم تلاحظ قبل اليوم أنهما تقدما في السن وأنهما بصدد توديع عهد الكهولة، تظن أن ذلك حدث فجأة، والحقيقة أنه كان يحدث على مرآك غير أنك كنت لا ترى، ونفس اليوم الذي كنت تنتظره طوال العام لتحتفل بنفسك وأنت ترى كيف تتحول لشخص مستقل وعال الشأن، كان نفسه يسير بيها نحو الضعف والوهن، لكنك لم تلاحظ إذ كنت مشغولا بنفسك.
وإخوتك كبروا أيضا، ويا للعجب، لم يعدوا أبدا الإخوة الصغار الذين تتفوق عليهم بفارق السن الذي يمنحك حق الرقابة والوصاية عليهم، اليوم هم من مقامك، وربما مختلفون جدا عنك فيما يفكرون وبما يحبون، وأنت سترى كل هذا دون أن تملك حق التدخل، الآن لا تملك إلا أن تعاملهم كأنداد.
زوايا البيت لم تعد تشبه العوالم السرية كما كانت إبان الطفولة، البيت نفسه لم يعد كبيرا ومحيرا كما كان يبدو سابقا، الأدراج والأركان لم تعد مغرية كمخبأ مفاجآت يدعوك للتنقيب، أهم الأشياء وأبسطها صارت توضع على مرأى عينيك، حتى غاب شغفك بها بكثرة ما بدت قريبة ومتاحة، هذا البيت الذي كان ساحة حرب وحلبة صراع وملعب كرة غيّر أثاثه وترتيبه دون أن تلاحظ، لقد صار غريبا يحرمك تلك الألفة المعهودة كأنه يعاقبك على غيابك.
والحي نفسه لم يعد نفس الحي، لقد غاب وهجه مع رحيل رجاله ونسائه، أولئك الأشخاص الذين جعلوا منه قبيلة صغيرة يسودها الإخاء والإيثار، فصنعوا المسرات وتقاسموا الأوجاع، لقد رحل الأبطال الأوائل، والذين يفترض أن يخلفوهم هم مثلك تماما يستيقظون اليوم على دهشة هذه الاكتشافات التي تبدو محيرة، رغم أنها كانت تحدث على مرأى منكم ومسمع، وببطء شديد.
أصحاب الدكاكين تغيروا.. رحل صاحب البقالة النبيه، والذي يحلو لك العبث معه، ومشاركته الأسرار الصغيرة عن الجيران، والذي صار يحفظ جميع آنيتكم من تكرار المرات التي حملتها إليه بالحليب الفاسد، وتغير الحلاق الذي يعرف تماما ما يناسب وجهك من قصات وما يرضي والدك، فيشرع في نحته على رأسك دون انتظار إذن منك، ليس هناك اليوم ’’الفرناتشي‘‘ الذي يعرف أنكم بصدد وليمة من عدد ونوع الأرغفة التي تضعها عنده صباحا وأنت في طريقك للمدرسة، ولا صاحب الحمام الذي يحسب عمرك بدقة منتظرا بلوغك الثامنة لتصير رجلا بمعيار شباك الأداء، ولا فقيه المسجد ولا أستاذ الحي اللذان يتحول الأطفال أمامها لزئبق طائر، ولا هذا ولا ذاك ممن يمنحون الأوقات والأماكن والأشياء معناها.
اليوم هنا شباب لا يهتمون بتفاصيل عنك، هنا بقالة تعتمد مبدأ اخدم نفسك، وحلاق لا تكلمه إلا من خلال ’’كاتالوج‘‘، ونمط من الحياة يقدم دفء المشاعر والعلاقات قربانا للراحة، ويسير في سباق محموم نحو الامتلاك، ليتسنى للجميع تعريف أنفسهم بما يملكون لا بما يمنحون، وقد تحتاج مع كل ما تغير لظرف استثنائي جدا، قد يحدث مرة في العمر، ليمنحك مساحة واسعة للتأمل والاستيعاب.
وحدها السماء تبقى على حالها، على اتساعها المعهود، فاتنة ومغرية كما في عهد الطفولة، ما تزال مرتبطة بأكثر الأحاجي غرابة، وما تزال مفتوحة لمناجاتك، وربما لا طريق للعودة لنفسك ولحياتك إلا بالعبور من خلالها.

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)