العفو في زمن الكورونا

مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في مارس المنصرم وتفاديا لوقوع كارثة بسبب معدلات انتشار فيروس كورونا المتسارعة، دعت الدول إلى العمل على إطلاق سراح السجناء، خاصة مع استحالة تطبيق حلول أخرى مثل تفريقهم أو عزلهم فرديا، بسبب وضعيات السجون المكتظة أصلا، رافضة أن يكون مصير السجناء الموت جراء تفشي الفيروس.
وبالفعل قامت دول عديدة بالإفراج عن مئات وأحيانا آلاف المعتقلين لديها كجزء من خطة مواجهة كورونا، في المغرب وتفاعلا مع هذه التحركات قامت عدة مناشدات بالإفراج عن معتقلي الرأي والمعتقلين الاحتياطيين والذين شارفت مدة محكوميتهم على الانتهاء، تصدر جزء منها عائلات وأصدقاء معتقلي حراك الريف، ودعما لهذا الجهد وجه جمع من الشخصيات السياسية والأكاديمية والحقوقية والإعلامية ما أطلق عليه “نداء الأمل” من أجل إصدار عفو ملكي شامل عن المعتقلين، وعلى الصحافيين المحكومين والمتابعين، على اعتبار أن ذلك “يعزز الظرف الوطني التعبوي المتزامن مع وباء كورونا”، و”يقوي مناعته المرجوة، ويزيد من الثقة والأمل في المستقبل”.
ثم جاء بلاغ العفو الأحد المنصرم متضمنا لأكثر من 6500 اسما، ومستثنيا معتقلي حراك الريف والصحافيين والمدونين! نص البلاغ قال إن المستفيدين من هذا العفو، اختيروا بناء على معايير إنسانية وموضوعية، تتعلق بالعمر والوضع الصحي ومدة الاعتقال وحسن السيرة والسلوك طيلة مدة الاعتقال، وأنه -أي العفو- جاء استجابة للظرفية المتعلقة بانتشار وباء كورونا وليس استجابة للدعوات المتزايدة لإطلاق سراح معتقلي الريف.
وبهذا يكون صناع القرار قد أهدروا فرصة عظيمة قد لا تعوض لإنهاء هذا الملف والسماح بفصل ختامي لهذه المعاناة، وجعلونا نتساءل سرا وجهرا عن هذا الذي تخشاه دولة ثابتة الأركان من فتية خرجوا يطالبون بشكل سلمي وفي ظل النظام وتحت سلطته ببعض مطالب اقتصادية واجتماعية زكاها الجميع، وإذا كان حدث عظيم كهذا الوباء الذي يجتاح العالم كله ليس كافيا للالتفات لهم وإنهاء معاناتهم فما الذي قد يفعل؟
لقد كنا نجلس على مدار عامين نرقب شبح انفراجة قبل كل عيد وطني أو ديني، ومع كل خطاب ملكي، دون طائل حتى يئسنا من أن يكون العفو طريق الفرج، حتى حل بيننا هذا الوباء كالعاصفة التي عبثت بكل شيء، وكما كان كافيا لتقريب وجهات النظر والتخندق الموحد وتحقيق إجماع نادر بين السلطة وكل مكونات الشعب، فقد كبر الأمل في أن يصير هو خاتمة هذه المأساة، وكان ليكون الحسنة الوحيدة لهذا البلاء، والحدث الذي سيعيد بناء الثقة، ويكمل تثمين قرارات الدولة، ويشيد برشدها، وتدبيرها للأزمات، ويسكت عنها أفواه المعارضين لزمن، لكن ويا للأسف لا شيء من ذلك كله حدث.
ويعظُم الأسف وتكبر الحسرة إذا تذكرنا حال أهالي المعتقلين، وكيف ستتلقى الأمهات اللواتي يرفعن المناشدات منذ أسبوعين هذا الخبر؟ كيف سنشرح لهن أن أكثر من 6500 اسم ضاق عن احتواء فلذات أكبادهن؟ ولأي هدف يستمر عقاب أبنائهم بالزيف والباطل البين لسنين طوال؟ ولماذا يستمر توسيع جراح ذويهم وتعميق الهوة بين تلك البقعة ومركز القرار؟ وأي ثمن يُنتظر أن يدفعه هؤلاء حتى يتم إنصافهم؟ ألم تكن مطالبهم كلها صادقة الاستعجال، أليست هذه الأزمة التي نعيش اليوم أبلغ دليل على أحقية وأهمية مناشداتهم بعد ثلاث سنوات فقط على انطلاقها؟
ثم ما هي سوى سويعات حتى بدأت تظهر نتائج العفو الذي شمل ضمن قوائمه مجرمين يندى الجبين لأفعالهم وتأبى الفطرة التصالح معهم، وأخرين متورطين في قضايا فساد بشهادة المجلس الأعلى للحسابات، ما يعيد طرح السؤال القديم الجديد حول آلية العفو ومستحقيها، ومدى الشفافية التي تلازم العملية، وكيف يحرم منه نشطاء في احتجاجات سلمية ويتمتع به ناهبون وعتاة في الجريمة والترويع؟
لقد ظل تدبير الدولة لهذه الأزمة جيدا في عمومه، وحصد الدعم والتثمين من طرف المواطنين، لكنها للأسف سقطت في امتحان العفو، وحرمتنا من مصالحة حقيقية كان البلد في حاجة إليها في هذا الظرف الاستثنائي الذي يزداد صعوبة كل يوم، وكانت انتقائية وانتقامية عكس الكورونا نفسها.

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)