الأمعاء والضمائر الخاوية

ألا عاقل يلتفت لمصير شباب في غُرّة العمر والأحلام، استطاعوا التعالي على حماقة وجبن ملايين المواطنين ’’الصالحين‘‘ الذين يأكلون وينامون ويتزاوجون ويشاهدون كرة القدم في هدوء، وحملتهم أنفتهم وفهمهم الحقيقي لما لهم وما يستحقون، فصرخوا نيابة عن ملايين المغاربة لينالوا حقوقهم خارج ملفات الأرشفة وتصريحات الاستعراض، فزرعوا أرض وسماء الريف آمالا في التغيير قبل أن تنال منهم آلة القمع وتحيلهم إلى مجرد أرقام تستوطن الزنازين لسنين طوال، ألا يلتفت أحد لهذه المأساة والموت صار يتهدد شابين منهم نتيجة بلوغهما اليوم 15 من الاضراب عن الطعام احتجاجا على وضعهم المزري داخل السجن.
تدخل السلطة العنيف الذي جعل الريف يعيش رعبا مستمرا على مصير الأبناء والأزواج يمكن أن يجد مبررات كلاسيكية من التي نسمعها طوال الوقت، لكن المحير بل والمحزن هو ما آل له حالنا نحن من التنكر لهؤلاء الشباب مع علمنا يقينا بعدالة مطالبهم وببراءتهم، ما الذي يتغير في الناس حتى يستطيعوا التطبيع مع أوضاع مخزية دون أن يشعرهم ذلك بالعار؟ وكيف تستبدل كل مشاعر التضامن والتآزر والاهتمام بالتجاهل المتعمد، والبرود في التعاطي مع قضية كانت إلى وقت قريب القضية الأولى.
ما هي الدوافع المنطقية لحالة التنكر هذه؟ هل يتعلق الأمر بالخوف؟ الخوف من نفس المصير؟ من أن نحرم من ممارسة روتين الانتظار والقبول بأكثر الخيارات سوء فيما ندعي أنه حياة، لكن الخوف قد يفسر سلوك فئة معينة فقط، لكنه قطعا ليس السبب الوحيد.
هل استطاعت بلاغات المندوبية العامة لإدارة السجون ومعها جندها من منابر الإعلام، إخماد ردود فعل الناس، وذلك بخروجها في كل مرة لنفي ما يرشح من أخبار المعتقلين محاولة فيما يبدو شيطنتهم وتأليب الناس عليهم والشحن ضدهم، عبر اتهامهم بالكذب والتجني عليها، كما حدث آخر مرة بعد إعلان ناصر الزفزافي ونبيل أحمجيق استئنافهما الإضراب عن الطعام بسبب ما قالا إنه معاملة لاإنسانية وتضييق يطالهما في السجن، لتخرج المندوبية بتكذيب لهذا الخبر مدعية أنهما يتوصلان بوجباتهما اليومية بشكل عادي، بل وأكثر من ذلك هددت بمقاضاة والد الزفزافي الذي صار يشكل متحدثا باسم المعتقلين ومرجعا لمعرفة صحيح وموثوق أخبارهم.
لابد أن لهذه البروباغندا تأثيرها، التكرار والتأكيد يشوشان على آراء الناس ومواقفهم، ويساهمان أيضا إلى تشكيل الرأي العام وإعادة صياغة الأحكام وتحديد المسافات من الأحداث والأشخاص. الخطابات الموجهة تؤثر أيضا على إيمان الناس باحتمال تحقيق مطالبهم، وتدفعهم في النهاية للتخلي عن الحقوق خوفا من مصائر مشابهة، هكذا تنتشر ثقافة قبول الأمر الواقع واليأس وفقدان الثقة في جدوى أي فعل احتجاجي.
وقد يرجع السبب أيضا لقصر نفس العامة، وذاكرتهم التي قيل عنها: ذاكرة العوام ثلاثة أيام، فما يلبث أن ينتقل الناس لمشاغل أخرى مؤقتة، ومواضيع مختلفة تتناوب على قائمة الاهتمام والمتابعة، خاصة في بلد تتوالد فيه المشاكل والأزمات دون توقف.
وربما تجتمع كل هذه الأسباب لتصيغ في النهاية شرحا ولو أوليا للتغيير الحاصل في اهتمام الناس بمصائر هؤلاء الشباب حتى ونحن نرى عداد أعمارهم متحركا نحو نهاية محسومة، فيما يبدو أنه تسليم لأعناقهم لمقصلة الانتقام الممنهج الذي يمارس ضدهم، وحتى إن قال قائل إن إعلان التضامن بالكتابة ونشر الصور أو خوض بعض الإضرابات القصيرة، لا يحقق مطلبا ولا يغير واقعا فهو على الأقل إعلان عن حياة القضية وعن حضورها، وتحقيق للحد الأدنى من نصرة المظلوم عبر إشاعة ما يتعرض له من ظلم وانتهاك وإخبار الناس به، وهو إلى ذلك تأكيد على الإنسانية وعلى حياة الضمير، فلا يستقيم أن نقابل معركة الأمعاء الخاوية بضمائر أعظم خواء منها.

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)