السجّان.. ذاك الإنسان أيضا!

أدب السجون الذي يكتبه وينشره المعتقلون بأنفسهم أو باللجوء لخدمات كاتب أو قاص بعد نهاية تجربة الاعتقال، ظل ينقل لنا أنماط حياة هؤلاء داخل المعتقلات بما لازمها من جلسات التحقيق والتعذيب والألم والجوع والمرض واليأس، بتدقيق جعل القراء على علم بتفاصيل كثيرة عن أماكن اعتقال ما عادت موجودة، وعن محققين وسجانين ربما غادر أغلبهم الحياة،هذا الأدب نجح في نقل التجربة كاملة على صعوبتها وسوداويتها للقارئ الذي كان يجهل تماما ماذا تخفي أسوار المعتقلات المرتفعة.

 

حتى أن الأمر تحول لاحقا لما يشبه سجالا غريبا حول تحديد أكثر الأنظمة قمعية، وذلك استنادا إلى المعطيات التي سردها المعتقلون عن وضعية مراكز الاعتقال وجديد تقنيات التعذيبوالتصفيات، مؤلفات عديدة عالج بعضا منها تجارب الاعتقال إبان زمن الرصاص بالمغرب في كل من تزمامارت وأكدز ودرب مولاي الشريف، أو في بوسليم فترة حكم العقيد القذافي، أو سجن تدمر وصيدنايازمن حافظ الأسد ووريثه في الحكم والقتل،شهادات نزلاء هذه المعتقلات وغيرها من الذين نجحوا في الخروج منها أحياء تنافست لتتويجأكثر الأنظمة سادية وإجراما في حق معارضين في السياسة، أو مخالفين في الأيديولوجيا، أو اشخاص صنفوا على أنهم مصدر تهديد للممسكين قهرا بالسلطة.

 

جميع هذه التجارب، أو لنقل المشهورة منها على الأقل حتى لا نُسقط التجارب المختلفة إن وجدت، تناولت المعتقل كبطل وحيد للقصة، حكت تجربته ونقلت معاناته وقربت من القارئ مشاعرهوخلجاته، والمد والجزر الذي يعتري إرادته في تدبير أيام سجنه، وجميعها أيضا كانت إذ تأتي على ذكر السجان أو حارس السجن لا تخرج عن ذكر النموذجيين المتكررين في كل القصص، فإما الحارس السادي المريض الذي يبالغ في تعذيب مسجونيه وإحالة أيامهم السوداء سلفا لجحيم عظيم يتمنون معه أنهم لم يوجدوا، كما جاء في شهادة أحمد المرزوقي أحد معتقلي سجن تزمامارات الرهيب الذي أورد في وصفعذابات سجنه الآيةمن سورة فاطر:{لا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا}.

 

وإما بالمقابل نموذج الحارس الطيب المحسن الذي يستغل أي لحظة غفلة من رؤسائه وزملائه ليمد المعتقل بحاجة أو خبر أو مواساة تملأ خواء أيام السجن التي لاتختلف عن لياليه. هذا الحارس الذي يقدَم دوما على أنه المغلوب على أمره الذي يمارس هذا العمل قهرا وقصرا، كان له دور كبير في نجاة العديد من المعتقلين خاصة عندما كان يتمكن من وصلهم بذويهم الذين كانوا في أغلب حالات الاعتقال السياسي خلال العقود الماضية يجهلون تماما مصير أبنائهم.

 

أدب السجون لم يقدم لنا -فيما أعرف- عملا من الزاوية المقابلة، زاوية حراس السجون، عملا موقعا باسم السجان فلان، يتغلل في نفسية السجان السادي ويكشف لنا أسرار قسوته المبالغة وعدائه الشخصي لمعتقلين كان أغلبهم بريئا اللهم من كلمة، ولا أخبرنا عن الداعي الذي يجعل السجان الطيب يخاطر برقبته وهو يحاول أن يضع متسللا حبة دواء أو رسالة بيد معتقل لا يعرفه ولا يقرب له.

 

مناسبة هذا الحديث هي الفيلم الجميل للمخرج عز العرب العلوي المحرزي الذي قدم تصورا جديدا عن جحيم تزمامارت في “كيليكس، دوار البوم”، فتناول المأساة التي طبعت سنوات من تاريخ المغرب تناولا آخرا أبعد للمرة الأولى ربما المعتقل عن دور البطولة ومنحه كاملا للسجان، الفيلم لم يعرض وجه واحدا لأي معتقل، وركز علىنقل تفاصيل حياة السجانين وخبايا أنفسهم والاضطرابات والرفض الاجتماعي والهواجس التي تلازمهم، ما يجعلهمفي النهاية يستحقون أضعاف الشفقة التي ينالها المعتقل، باعتبارهم أسوأ وضعا بكثير.

 

خصوصية هذا الفيلم لا تنحصر فقط في تناوله لقضية تزمامارت بما تمثله في وجدان المغاربة،ولا في توثيقه للمزيد من تفاصيلها عبر نقل ما احتفظت به ذاكرة المخرجنفسه باعتباره ابن تلك المنطقة، ولكن أيضا بزاوية المعالجة التي حملت للأذهان أبعادا أخرى لمأساة الاعتقال وضحية أخرى لسنوات الرصاص، إنها السجان.. ذاك الإنسان أيضا!

 

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)