الحرية بعد التعبير

لم يعد مهما أن نسرد ضمانات ممارسة حرية التعبير، ونستدل عليها بالنصوص ونجتهد في الاحالات على المواثيق العالمية لحقوق الإنسان وعلى الدستور والقوانين التنظيمية والممارسات الدارجة، لأن الأولى اليوم قبل أن ننطق أو نكتب، وربما قبل حتىأن نتفاعل ونبدي الإعجاب والتأييد لفكرة أو أغنية أو موقف،أن نفكر في مصير حريتنا بعد التعبير.

خلال الأشهر الأخيرة من 2019 عادت المؤشرات والتي لم تنقطع بالمناسبة طوال العشرية الأخيرة، لتعلمنا أن الأوضاع ليست بخير تماما.. وأن ما نرجو تحققه مع مرور الوقت والتغيير التدريجي في العقليات والممارسات، يبدو أنه يتحطم أمام جبروت يذكرنا في كل مناسبة أننا محكومون بقوة ’’شوف واسكت‘‘.

فضاء هذه المعركة اليوم يؤثثه شباب ونشطاء مهددون كل لحظة بإعادة تركيب أقوالهم وتدويناتهم بما يناسب تحريك متابعات قضائية ضدهم من طرف النيابة العامةبتكيفات غريبة، البقية ممن كان يجب أن يسجلوا المواقف في هذه القضية، غائبون كما العادة، وربما ليس ما نجنيه اليوم من تراجع هامش حرية التعبير الرقمي خاصة،سوى بركات ما جاءت به الدعوة لمراقبة وضبط مواقع التواصل الاجتماعي التي أثارها للأسف نوابنا البرلمانيون.

حيث انبرى النائب البرلماني الاشتراكي قبل سنة مسائلا الحكومة عن تصورها لضبط ومراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، بدعوى أنها تعرف تجاوزات كثيرة، وحتى إذا سلمنا بوجود انفلاتات وسوء ممارسة لهذا الحق، فمؤكد أن تقويمه وإصلاحه لن يكون بمتابعة وسجن المدونين.

اليوم ونتيجة للتضييق المتزايد على حرية التعبير الرقمي، يبدي جميع المدونين مخاوف حقيقية حول سلامتهم وحريتهم، إن القلق الذي يبعثه في نفسك مراجعتك لكل تدوينة مرات كثيرة وتعديلها لتجنيب نفسك الوقوع في فخ كلمة حمالة أوجه أو مضمون يحتمل عدة تفسيرات، قد يوصلك في النهاية لنبذ كل هذا العالم الذي يعيد صياغة مفهوم آخر من الرقابة على أفواه وكلمات وتفاعلات المواطنين، تحت التهديد بالمتابعات والسجن.

عندما توجهت السلطة لكبار الصحفيين والمؤثرين وتابعتهمبتهم تتعلق بالأمن غير متناسبة وغير ملائمة لما هو منصوص عليه في القانون الجنائي، وقانون مكافحة الإرهاب، كما جاء في تقرير منظمة العفو الدولية لسنة 2018.كان في تفاصيل قضاياهم وطبيعة نشاطهم وحجم تأثيرهم ما يمكن أن يفهم منه سبب إصرار السلطة على تغييبهم، أما والحال اليوم يتعلق بقُصّر من التلامذة فالأمر خطير ويؤشر على خوف غير مبرر وعلى إفلاس قيمي.

مثال على ذلكقضية التلميذ أيوب محفوظ، والتي تم البت فيها بسرعة قياسية،كان هدفها الحسم قبل انتشار القضية وبدء موجات الدعم والتضامن، التلميذ الذي مازال يواصل دراسته في السلك الثانوي التأهيلي،حكم بثلاث سنوات نافذة بسبب تدوينة تتضمن صورته إلى جانب مقاطع من أغنية عاش الشعب المعروفة، ورغم أن الفتى قام بسحب التدوينة بعد ساعات لكن هذا لم يشفع له،فهو اليوم نزيل في سجن تولال، بتهمة إهانة الهيئات الدستورية وإهانة هيئات ينظمها القانون وإهانة موظف عمومي.

أيوب ليس الوحيد، هنالك أيضا حمزة أسباعرمن مدينة العيون الذي أدين بأربع سنوات حبسا بسبب أدائه لأغنية تنتقد أوضاع الشباب المغربي، وشباب غيرهما سواء بطاطا أو بمراكش في قضايا لا يعرف الكثير عن تفاصيلها والتي يتم البت فيها بسرعة تثير التعجب.هذه المتابعات المستعرة لتلامذة الثانويات تشبه حلقات وصل بالماضي، وتعيد للأذهان فترات من زمن الرصاص حيث كان يزج بقادة العمل التلاميذي في مراكز التحقيق والسجن الأسوأ سمعة.

لجنة صياغة النموذج التنموي مطالبة بداية بالإجابة عن محورية ضمان حرية التعبير في وضع السياسات التنموية، وأن تبلغ إجاباتها المؤسسات التي تصم آذانها عن الأصوات المتعالية وعن الاحتقان الواقع، قبل أن تبدأ في قتل الوقت في الاستماع للمسؤولين أنفسهم الذي يتحملون فشل النموذج التنموي السابق.

 

 

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)