في معذرة ’’ولد الكرية‘‘

اكتشفنا في نهاية هذا العام أن مدلول إعادة التربية حسب التصور المخزني لا يختلف نهائيا عن مثيله المتداول في بعده الاجتماعي، والذي يرِد يوميا على أفواه الآباء والمدرسين. ذلك أن الوعيد بإعادة التربية الذي نتلقاه من الأسرة والمدرسة عندما نتمرد على الأوامر أو نأتي سلوكا مرفوضا حسب القواعد، والذي تكون نتيجته هي إعادة الترويض القسري على المسموح والممنوع، هو نفس الذي يتوعد به المخزن، بنفس نتائجه مع اختلاف أدواته طبعا.

والجدير بالذكر أن إعادة التربية هي علاج نفسي معترف به، ظهر في أواخر الستينيات ليساعد على إعادة توجيه وتصحيح الأفكار والسلوكيات، وتهذيب الشذوذ الذي يظهر نتيجة مشاكل تصاحب فترة الطفولة، ويقوم به معالج نفسي يتقمص دور الوالد باعتباره الفاعل الرئيس في التربية، هذا العلاج أثبت فشله نظرا لأضراره النفسية ونتائجه الارتدادية.

وتجارب المخزن في هذا الباب عتيقة جدا، وكانت تأتي عبر مرحلتين، تقوم الأولى على الالتفاف حول المعارضين وضمهم للسلطة عبر المكاسب والمناصب، وتأتي الثانية بعد تأكد رفض ومقاومة الطريقة الأولى، وتقوم على ثني المخالفين بالقوة، بالتضييق والسجن والتعذيب، ولعل أبرز مظاهرها هو إعادة التأهيل التي كان يخضع لها المعتقلون من أصحاب الفكر المتطرف، والتي يخرجون على إثرها ’’ ظهرهم رطب من كرشهم‘‘ فإما أن يعتزلوا الحياة العامة ويركنوا لزوايا بيوتهم قاطعين مع ماضي الدعوة والحشد، أو يتحولوا لأبواق دعاية للنظام أكثر بؤسا منه.

هذه الحالة القديمة الجديدة، والتي لم تطور أدواتها للأسف، تتهدد كل من قد ترى فيه السلطة مصدر إزعاج، حيث تتسع دائرتها اليوم لتبتلع نماذج لا يمكن أن يقتنع العقل أنها تشكل مصدر خطر أو تهديد. وهي الحل الأخير في منظور السلطة للذين استطاعوا مقاومة التربية على الاستبداد كما وصفها الكواكبي عبر التعليم وغيره من القنوات.

مدى تجاوب المغضوب عليهم مع جهود إعادة التربية يختلف حسب كل حالة، لكن عموما مقاومتها أمر صعب جدا، حيث تطول معاناة رافضي إعادة التربية والقولبة على دين السلطة، وتتسع دائرة المعاناة لتشمل كل من يدور في فلك المعارض، ما يكون معه الاستمرار في الصمود مكلفا جدا، وأقرب للمستحيل. لهذا لا عجب إذ رأينا تحول المعارضين الأكثر شراسة إلى منظرين للسلطة وخدام للمخزن.

وإني لأجد للمعادة تربيتهم الكثير من العذر، إذ أن ما يلقونهم أثناء عملية تأديبهم على السمع والطاعة لا بد أنها تليين الحديد، فما بالك بالإنسان ذي الضعف والخوف.

ويبقى التحدي الذي يواجه السلطة اليوم هو تحول السلوك المعارض والمنتقد لحالة عامة، فإذا كانت إعادة التربية سابقا تتجه نحو المعارضين اليسارين والإسلاميين الراديكاليين، فإنها اليوم مجبرة لتشمل أصنافا جديدة بينها الفنانون والمدونون ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي والتلامذة والمواطنون دون أي غطاء أيديولوجي ولا انتماء معين. ذلك لأن هؤلاء كما ذكر الأستاذ مصطفى العلوى -رحمه الله- يشكلون أخطر أنواع المعارضة اليوم، والتي سماها في واحد من مقالاته الأخيرة المعارضة الغير مصنفة، ذلك انه اعتبر أن ’’كل مظلوم هو معارض خطير، وكل مرغم على دفع الرشوة هو معارض رهيب، وأن كل محروم من المساواة أمام سوق الشغل هو معارض كبير، وخريجو المدارس وموظفو الإدارات والواقفون أمام الحافلات، وكل من يقول اللهم إن هذا منكر معارض، وكل من يكتب رسالة طلب ولا يتلقى جوابا معارض، أما المعارضة الحقيقية اليوم فهي معارضة أكبر حزب، وهو حزب ’’الفايسبوك‘‘.

آخر أبطال إعادة التربية يوسف محيوت المعروف ب ”ولد الكرية” قال كلاما معبرا جدا في خرجة أخرى تلت خرجته الأولى التي تراجع فيها عن مضمون ما جاء في أغنيته الأخيرة، حيث أعاد لنا الكلام الذي نعرفه جميعا، والذي نردده في مجالسنا الخاصة ونحن في حالة ’’ردان لعقل‘‘ لقد لخص النتيجة المرجوة من إعادة التربية بقوله: ’’هضرت وقلت اللي يتقال واللي ما خاصو يتقال، ودابا الله يجعل البراكة، غادي ندير فن نقي وعادي “.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 1 )
  1. Youssef :

    Merci beaucoup

    0

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)