البحث عن النموذج

أكثر من ستين عاما مرت على استقلال المغرب، عشرون منها في ظل حكم الملك محمد السادس الذي أطلق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بعد خمس سنوات على توليه العرش، بوصفها آنذاك مشروعا تنمويا يستهدف تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفئات الفقيرة، سنوات بعد إطلاقه وبالضبط سنة 2017 سيعود الملك ليقر خلال خطاب له بفشل هذا النموذج التنموي المغربي لأنه أصبح ’’غير قادر على تلبية احتياجات المواطن المغربي‘‘.

دونما خوض في الأسباب أو فتح ملفات التدقيق أو المحاسبة، سينتقل الاهتمام مباشرة للحديث عن النموذج التنموي الجديد الذي سيعهد إليه بحل جميع الإشكالات التنموية المزمنة والمعمرة.

هذا النموذج التنموي الذي حاول علاج الهشاشة ومحاربة الفقر وجبر الحرمان، عبر تغطية لمناطق واسعة سقطت من خطط التنمية بمحاورها الكبرى ومن واجب الالتفات والتعهد لسنوات متتالية، مواصلا بذلك تصورا إقصائيا قديما، وبعيدا عن تبني سياسيات عمومية معتمدة على مخرجات التقارير المتعلقة بالتنمية محليا ودوليا، حاول العمل منذ البداية اعتمادا على طرق ترقيعية، وقدم لمواجهة التحديات التنموية مجتمعا مدنيا ضعيفا ومخترقا ولا يمكن أن يشكل سوى نسخة مشوهة عن إرادة السلطة ممثلة في ذراعها الوزاري العتيد الذي كان يحشر أنفه حتى في مشاريع تربية الأرانب وأكشاك بيع الحلوى والحلزون.

مشاريع قزمة بأغلفة مالية كبيرة، كان كثيرا ما يتم ذكرها في معرض التسويق للعمل المضني الذي تقوم به المبادرة، قبل أن يقلب خطاب الفشل عليها الطاولة ويجعلها ماضيا متجاوزا مع وصمة الفشل، لكن دون الخروج بخلاصات حقيقية تبنى على ضوئها الانطلاقة الجديدة، والاكتفاء بترك واجب التحقيق في هذا الأمر مادة للمقالات الصحفية.

وإذا كان الإقرار بالفشل ينم عن شجاعة نادرة كما قال بذلك ’’المحللون‘‘ فإنه بالمقابل منح صكا مفتوحا من الزمن دون رقابة ولا متابعة، وهروبا ذكيا للأمام، والتماس مناص من المسؤولية. فهذا الاعتراف الذي لم يعقبه محاسبة للمتسببين في هذا الفشل سواء منهم من يعهد إليهم بالتخطيط وتسطير البرامج والأهداف أو بالمنفذين، ولم يعمد لمراجعة مآلات الموارد التي ظلت ترصد لهذا المشروع، لا يدل على رغبة سياسية حقيقية في تجاوز الوضع القائم أكثر من كونه إعلانا عن طي مرحلة وبداية إقرار نموذج جديد بكل ما يتطلبه من عمل وما يلزمه من وقت، ولن يكون بالإمكان تقييم عمله طبعا إلا بعد أعوام أخرى.

والحقيقة أن الواقع الذي عرف احتجاجات شعبية متواصلة -حتى إيقافها بالقمع والاعتقال- لم يكن يسمح بغير الاعتراف بالفشل، بهدف تجديد أمل اليائسين بالوعود حول نية التحرك في اتجاهات مختلفة لتصحيح الخطأ بعد الوقوف على مكامن الضعف، وأيضا لمحاولة المواءمة مع المناخ العالمي الذي يهتم أكثر وأكثر بحقوق الانسان ومن ضمنها الحق في التنمية وممارسة السيادة على الثروات والموارد.

هكذا يظل محور التنمية حاضرا في النقاش العمومي وفي نقاشات السياسيين دون أن نحصَل شيئا من نتائجه، وبين نموذج فاشل وآخر مستورد وقيد التجريب سيبقى الهامش ضحية للتصور الرسمي للموضوع، والذي لا يبدو أنه يهتم كثيرا بتحقيق رفاهية الانسان باعتبارها إطارا أساسيا ومقياسا لمعدل لتحقق التنمية بمحاورها الكبرى، وبغض النظر عن إطارها المؤسساتي سواء تعلق الأمر بمبادرة كما في النموذج السابق، أو وكالة كما هو الحال في وكالات التنمية المختلفة.
مناسبة كل هذا الحديث هو استقبال الملك لشكيب بنموسى وزير الداخلية السابق، وتكليفه برئاسة اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، لتبدأ دورة الانتظار من جديد.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)