جرادة.. يكون خير

بعد حوالي شهرين سنشهد الذكرى الثانية لانطلاقة حراك جرادة الذي تراجع وهجه على الأرض دون أن ينتهي تماما، بعد أن تم الالتفاف على مطالبه الأساسية بالخدعة القديمة القائمة على تحويلها لمناشدات برفع الحصار عن المدينة وتحرير الأبناء المعتقلين فقط.

جرادة النقطة القصيّة المغيبة التي أريدَ لها بعد عملية الإفراج عن العشرات من معتقليها الشباب الذين تم اختطافهم من البيوت والأزقة في جوف الليل وتحت إشهار السلاح والتهديد به أحيانا، وبعد حفلات التنكيل والتعذيب والحبس الانفرادي أثناء التحقيق، مرورا بجلسات المحاكمات بحزمة التهم الجاهزة نفسها، وصولا لتوزيع عشرات السنين عليهم كأنهم أصل الداء ومرد البلاء الذي يغمر المدينة، قلت قرار الإفراج عنهم بعفو ملكي ليلة عيد الفطر الماضي كان الغرض منه طي صفحة هذه الانتفاضة التي فاجأت المخزن وأعيت حيله، وأريد به صم الآذان عنها وتحويل الأبصار وردمها بالصمت والنسيان.

وكان الأمر ليحدث تماما كما دُبر له لو أن مخرجات التقارير واللقاءات والزيارات بدأت تعرف طريقها للنور بشكل يمنح الناس سببا واقعيا للصبر والانتظار، لكن أهل جرادة كالجالس على فوهة بركان نشط، إن طال صبره عليه انفجر وناله منه من الأذى أضعاف ما كان يمكن أن يصيبه إذا هو بادر بالهرب وطلب الملاذ.

أزمة هؤلاء الشباب ومعهم المدينة لن تنته قطعا بالإفراج، لأن صفحة الاعتقال لم تكن سوى محنة إضافية واجه بها المسؤولون فشلهم في مواجهة الحراك وتدبير مطالبه، وأهمها المطلب الرئيس الذي من أجله ظل هؤلاء الشباب يتظاهرون ويجوبون شوارع المدينة ويبلغون عشرات الكلومترات خارجها لأربعة أشهر متواصلة، وهو بديل اقتصادي يسمح بإدماجهم في فرص شغل حقيقية قارة وآمنة.

غير أن الأنكى والأشد أن تفاجأ القلة من هؤلاء الشباب الذين كانوا محظوظين بتوفرهم على مناصب عمل قبل الاعتقال بقرار الطرد ورفض عودتهم لتسلم أعمالهم بدعوى أنهم معتقلون سابقون! ومثال على هؤلاء العمال الثلاثة للمحطة الحرارية الرابعة الذين كانوا يشتغلون ضمن فريقها التقني حسب ما تؤهلهم له دبلوماتهم منذ 2013، والذين وجدوا أنفسهم بعد نهاية محنة الاعتقال في ضيافة البطالة والشارع في مدينة تشكي شح فرص العمل.

الشباب الثلاثة بوجمعة قسو، محمد اليوسفي وحميد فرزوز، لا يسمح لهم اليوم باستئناف أعمالهم، ويتم تبرير هذا الرفض بعدم وجود مناصب شاغرة حاليا، في الوقت الذي أسرّ لهم مسؤولون بالمحطة أنهم ينتظرون إيعازا من السلطة أولا قبل فتح أبوابها في وجوههم مجددا، الشباب وأثناء تواصلهم مع السلطات تواصلا مباشرا مع ممثليها أو مراسلات للقطاع الوزاري المعني لا يتلقون من الردود سوى لازمة: ’’ يكون خير‘‘ وهؤلاء يعرفون جيدا أن هذا الوعد بالخير لا يمكن أن يلبي احتياجات الأسر التي يعيلها هؤلاء الشباب.

هكذا إذا وبدل رد الاعتبار، وإشراك المعتقلين السابقين بما يمثلون واقعيا ورمزيا في إيجاد حلول ترقى بحال المدينة وتساعد في تجاوز واقعها البئيس وتدل أيضا على جدية السلطات في التعامل مع هذا الملف كما تدعي في كل مناسبة، يتم بالعكس وصم هؤلاء الشباب واعتبارهم مصدرا للعار وتخويف أرباب العمل من تشغيلهم والتضييق عليهم ومحاصرتهم في رغيفهم الأسود، ودفعهم بالتالي نحو تصعيد معركتهم معها.

الشباب الثلاثة والكثير من زملائهم في محنة الاعتقال ومطالبةً بحقهم في الشغل، دشنوا اعتصاما مفتوحا منذ بداية الأسبوع يعاودون فيه إحياء تفاصيل الحراك الاجتماعي لجرادة في هذه الأجواء الباردة جدا، فكما يبدو جرادة شعلة تتوهج بالبرودة وتعد كل عام بشتاء ساخن.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)