جدل ” النيفو”.. البرلماني العسري وحسناوات بلجيكا

حركت تدوينات علي العسري، المستشار البرلماني بجهة فاس مكناس، حول الورش التطوعي الذي أشرفت عليه شابات من بلجيكا، ردود فعل كثيرة؛ كما حركت أسئلة عميقة ضمن نقاشات المهتمين بمجال الفكر، والتي انصبت أساسا حول خلفيات التدوينة، ومغزاها الإيديولوجي، لكنها تحوّلت، في باب آخر، إلى ما يشبه مواجهة مفتوحة تغيب فيها شروط الحوار، بل تغيب فيها أدنى قيٓم الاعتبار للآخر المختلِف.

 

 

محاورة ما تضمنته تدوينات ابن إقليم تاونات، علي العسري، ومناقشة يقينياتها، وما تنطوي عليه من تشكيك، وتساؤل، وتفكيك للنوايا، تجر في العمق نحو تكريس قواعد الجدل، وتقعيد شروط الحوار، وهذا جد مهم بالنظر إلى وضعية الجمود التي تسِم أرضية النقاش العمومي، هذه الوضعية تحكم على الوعي بالعطالة، وتُفشل كل محاولة لإنتاج ثقافة انقلابية ضد “الديكتاتورية”، وضد الوصاية الفوقية.

 

 

شروط عديدة تغرِّب الحوار، وتدفع للتشاؤم من آفاق التغيير، وما يمكن أن يخدم به المجتمع – جدليا- على اعتبار أن رهان المرحلة محكوم بخلفيات إيديولوجية، ومُوجّٓه بأفكار تلبٌٓست في أذهان الكثيرين، وأصبحت بفعل التداول المفرط ” عقيدة” يُعتقد أنها شرط أساسي لاستمرار النسق، لا لشيء سوى أن سياق إنتاجها جاء معاكسا لسياق إنتاج ” الميتافيزيقا المطلقة”، والتي بالمناسبة بات بعض منظريها يراجعون مواقفهم منها.

 

في تقديري، حققت تدوينات العسري، وكل التدوينات المثيرة للجدل، مجموعة من القيم، لعل أبرزها أنه أخرج النقاش العمومي حول القضايا الخلافية والاختلافية إلى حيز الوجود، بينما تتجلى القيمة الثانية في كونه حرّك مياها كانت راكدة، بل كانت تنتظر ” فلتة” لإعلان المسكوت عنه، لكن القيمة الأهم هي أنه أغنى السجال حول قضية يفهمها البعض انطلاقا من ” المكتوب”، بينما يُصرُّ الآخرون على فهمها انطلاقا من منهج ” التأويل”، وكلاهما محمود في ظل التزام قبلي بشروط التواصل، الحوار، وديناميتهما.

 

 

تاريخيا كان الجدل الفكري ( وما زال في شق منه) يتغذى على مناقشة الأفكار، وتوجيهات العقل ودفوعاته، وعدد من التيارات السياسية، والحقوقية، في المغرب، أخذت على عاتقها مهمة رفع ” النيفو”، والتعامل مع الرأي الآخر من منظور ” الحق في الاختلاف”، بحكم أن السند في المواقف كانت هي المرجعيات الفكرية بمختلف تمفصلاتها، خاصة وأن اتجاه الفلسفة كان هو المهيمن، وكان من اللازم على رواده تنزيل مضمون الفلسفة لعراك الواقع اليومي، وهذا ما يغيب في حاضرنا، ويسعى الكثيرون إلى إطالة غيابه بما يخدم أطراف أخرى اختارت الوقوف موقف المتفرج، وهي بذلك تحقق الكثير من أهدافها الخفية والمعلنة.

 

 

ما وقع مع حسناوات بلجيكا – لا يهمني هل أصاب أم أخطأ العسري في خرجته- لا يعدو كونه ” مفهوم من منطوق”، والمفهوم يخضع للتأويل، ولاجتهادات العقل، لكنه لا يجب أن يخضع لضغط الأهواء، وللانفعالات، لأن هذه الأخيرة ليست سوى انعكاسا كاسفا لحقائق الأشياء؛ وحيثما وجد صوت العاطفة، والانفعال.. غاب صوت العقل.

 

 

قضايا خلافية كثيرة صنعت اللغط، وحرّكت الجدل، لكن الأهم هي تحريكها لأسئلة القلق الحقيقية: كيف يكون الحوار ممكنا!؟ وكيف يمكن بناء نقاش حقيقي في الفضاء العام!؟ ثم كيف يصير التوافق عن طريق الاختلاف ممكنا!؟ أسئلة وغيرها تجر نحو العمق، وتتجاوز نظرة التسطيح، التي تُغيّب التحليل المنطقي للقضايا.

 

مبادرة حسناوات بلجيكا جميلة، وحققت الكثير من المنفعة، لكن طريقة تفاعل الكثيرين معها، ومع الانتقادات الموجهة لها، لم تكن موفقة بالشكل المطلوب.

 

ختاما، بين المطلوب والواقع يوجد حد مشترك، كما توجد نقطة ضوء عاكسة لواقع الحوار المتفكك، لكنها أيضا عاكسة لمستقبل ممكن، تتحقق فيه فعّالية الوعي التواصلي بشروطه ” الهابرماسية”.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)