التعايش الديني بين استقواء الذاكرة ومضمرات الاعتراف

آيت بوزيد محمد*

على هامش المائدة المستديرة Ftour Débat التي نظمتها جمعية رواد التغيير للتنمية والثقافة بوجدة حول موضوع التعايش الديني ارتأيت أن أقدم هذه المساهمة المتواضعة حول هذا الموضوع لراهنتيه ومدى ملحاحيته في السياق الحالي وتشعب أبعاده، ومقاربتي المتواضعة ستكون لا محالة تساير نسق النقاش العمومي بشكل أو بآخر، بحيث وضعت لها عنوان:
“التعايش الديني بين استقواء الذاكرة ومضمرات الاعتراف”

 

1. لاشك أن ما يميز “التعايش الديني “بالمغرب كونه خاصية مميزة لنسقنا المجتمعي المغربي جسدت معالم هذا التعايش عبر مراحل طويلة من التاريخ ، بحيث أن هذه الميزة مزجت أنسجة العلاقات الإجتماعية وممارسات المغاربة قاطبة بدون انتقاء أولي أو حتى استدراج مسبق لمنطق الانتماء الديني، بل من أعطى لهذه العلاقات الاجتماعية صفة الاستمرارية وديمومة العيش المشترك هو الاقتناع من منطلق الإنسان و الإنسانية ومبدأ تشاركية الحيز الجغرافي والتقاسم المواطنتي و الارتقاء المعاملاتي الإنساني كمعايير ومقومات محركة لدينامية هذا التعايش بغض النظر عن العرق الديني.

أكيد أننا عندما نستحضر التاريخ وعلاقته بنا كذات سواء كذات تنصهر في الجماعة أو كذات فردية تتماهى مع الفردانية والتجربة الفردية، على اعتبار أن التاريخ ليس فقط تأكيدا لنوعية النمط الدولتي أو تذكيرا بسيرورة تعاقب السلاطين بل هو في الأصل مادة وثائقية رصينة تصبو ضمن أبجديات اشتغالها إلى الكشف عن الحقيقة وفض الغبار عن مضامين الذاكرة التاريخية لإضفاء مشروعية البناء الهوياتي.

هنا يتبادر إلى الذهن سؤال الأستاذ عبد الله العروي المؤرق في كتابه الايديولوجية العربية المعاصرة في الفصل المعنون بالعرب والاستمرار التاريخي والذي صاغه على الشكل التالي:

هل الاستمرارية التاريخية التي يؤكدها الوعي العربي بحماس (وهنا العروي يعتبر أننا نضطر إلى العودة إلى الماضي لتأكيد هويتنا وأن هذا الاحتماء بالتاريخ لا يعم كل الأطراف بل فقط ذلك الشيخ المفتون بالتاريخ ليتقوى به من التهديدات أو حتى ذلك السياسي الليبرالي أو داعية التقنية إذا ما فشلوا يعودان إلى براديغم استحضار التاريخ كأقنوم للاحتماء) يشتد هذا الحماس بقدر ما يشعر به الفرد بضياع ذاته وعجزه عن استعادتها على وجهها الأصيل، فهل نكتفي بكشف الغطاء عنها أم نشارك بالفعل في صياغة هذه الاستمرارية التاريخية؟

فإذا كان تدخلنا أمر لا مناص منه، فهل يعم التاريخ كله أم ينحصر في جزء منه؟ انتهى تساؤل العروي.

للأسف الشديد عندما نستسيغ أسئلة كهذه نسعى أن نجد لها إجابات ،ولكن واقعية التعايش بين الأديان ومراكمه تاريخنا وعيشنا المشترك بين مختلف الطوائف الدينية في هذا الصدد لم تكن له للأسف إسقاطات وحضورية الاعتراف في مقررات التاريخ ,بحيث كانت مغيبة وأن المدرسة لم تقم بواجب التعريف وإدراج هذا الزخم التاريخي، ليتم إغلاق هوامش المعرفة بطبيعة تلك الحقبة وبالتالي أغفلت مشاركة اليهود والمسيحيين الفعالة في الحياة الاقتصادية والتراثية الغنية , خاصة إذا ما استحضرنا مساهمات اليهود في صياغة الذهب والفضة وصناعة سبائك الذهب الحلي وسك النقود إلى حدود الثمانينيات.

 

2. أكيد أن سؤال التاريخ هو تأكيد ضمني والإجابة على مشروعية الأساس الهوياتي الذي شكل ذلك النسق المجتمعي الذي انصهر فيه كل المغاربة المسلمين والمسيحيين واليهود على حد سواء والرصيد الثقافي للتعايش الذي استثمرناه، وهنا استقوت على مخيالي تساؤلات كانت لها جرأة مفرطة نوعا ما من قبيل:

هل من الممكن استبعاد عنصر من عناصر مكونة للهوية في صياغة شروط العقد الاجتماعي ومفهوم الحيز المشترك الذي يضم الجميع خصوصا وأننا راكمنا تجربة مثالية في التعايش بين الأديان؟

وهل نستطيع فعلا تحقيق اندماجية مجتمعية أوسع وأنجع بإجبار الذات الجماعية عن التخلي عن بعض عناصر هويتها؟

تبقى أسئلة قابلة للنقاش خاصة وأن الاندماجية المجتمعية من منظور التفكير في الهوية تتشكل من شرعية الاعتراف بالعيش الجماعي.

 

3- إنه من الصعوبة بمكان الحديث عن التعايش بين الأديان دون التأكيد على محدوديتها ونسبيتها في مراحل وظروف تاريخية معينة خاصة فيما يتعلق بمآلات ما تعرض له اليهود المغاربة في مراحل متقطعة من التاريخ المغربي.

 

وفي السياق يأتي سؤال لماذا رحل اليهود؟ كسؤال له نصيب من مشروعية الطرح، وسببية فعل الرحيل انطلقت مسبباته بالأساس في مجموعة من العوامل نذكر بعضها:

 

المتغيرات والسياسات التي انتهجها المستعمر في نهج استيراد المنتوج الأجنبي دون التفكير في صياغة سياسات حمائية للمنتوج المحلي خصوصا في ظل شدة التنافسية وانخفاض ثمن المنتوج الوافد على السوق الداخلية، جعلت قرار الرحيل يتشارك فيه أزيد من 90 ألف يهودي ما بين فترة 56-1948 والذي كان بمثابة الحل لتجاوز وضعية الفقر والهشاشة التي أصبحت معادلة المعيش اليومي تتقاسمها هذه الفئة.

 

الأحداث الدامية التي عرفتها جرادة لسنة 1948 والتي سرعت من وتيرة حركة الهجرة خاصة تلك التي أحدث فيها الفقر فعلته فيها.

حرب الستة أيام وصدمة الهزيمة ترجمت رحيل 40 ألف شخص وبالمناسبة فقد كان يبلغ حوالي 70 ألف فرد إلى حدود 1967.

 

4. إن ما يستأثر بالاهتمام في خضم هذه التراكمات أن الحوار بين الأديان والهجرة موضوعات حظيت باهتمام العالم، بحيث أصبحا يشكلان مصادر قلق وصداع مزمن بالنسبة لبعض الفئات المجتمعية وكذا مصدر من مصادر التشنجات الهوياتية التي قد تعيق أساس العيش المشترك.

وهنا تبقى إلزامية الحوار ضرورة حتمية، على اعتبار أن نتجاوز منطق التسليم بالواقع من خلال ما يتمثل من حدة الاحتقان المستفحلة، افتعال الأزمات تزايد منسوب طيف الطائفة والطائفية، سوء الفهم بالآخر من اختلافات وتمايزات ذلك الآخر، تشنجات من الاسلاموفوبيا من تصاعد وتيرة اليمين المتطرف ومستويات الشعوبية والتعصب من فكر وسلوكيات الآخر.
ولعل زيارة البابا فرنسوا إلى المغرب كانت مؤشرا على أن ما يملكه المغرب من رصيد تاريخي قد تشكل تجربة إنسانية عالية يمكن أن يقتدى بها في التعايش بين الأديان وتجاوز الأحقاد ووضع إنسانية الإنسان كمدخل لاختياراتنا الحياتية.
وأن ما يضمن منطق التجاوز هو بسط الإجابة عن إشكاليتي اقتران صورة المسيحيين بالحروب الصليبية، وإشكالية ارتكان صورة اليهود بذكرى 67.

ولكن ما يعيق تنزيل مخرجات حقيقية الإجابة تصطدم بإشكال التصاق الدين وتوظيفه في السياسة بحيث أن العلاقة بين الأفراد تتعالى عنها صفة إنسانية الإنسان وتبقى محددة في مدخلات وخلفيات موروثة ومنحوتة يصعب محوها.

 

5. إن تواجد اليهودية بالمغرب كان منذ 20 قرنا، والمسيحية حسب بعض الدارسين لتاريخ الأديان كانت موجودة قبل دخول الإسلام وانقطعت واستمر تواجدها خلال المعرض الموجود في مؤسسة شيخ المغرب منذ 9 قرون، تمتعت على إثرها هذه الأديان بكل الحريات: حرية أداء الشعائر، حرية إقامة الكنائس، حرية التجارة وممارسة المهن، حرية التنقل…

وكانت هذه الحريات منظمة وفق مراسيم سلطانية، حتى أن بعض هذه المراسيم تطالب بالاحترام التام لغير المسلمين “ويجب لهم الاحترام، ما يجب لغيرهم من المسلمين “وهي جملة كانت في تضمينات هذه المراسيم الموثقة والمشرعة لحقوق المسيحيين واليهود بالمغرب.

6. حقيقة نحن في أمس الحاجة إلى إطار تعريفي لهذا التاريخ ليس فقط من أجل المتعة المعرفية أو ترف فكري أو تنميق للكلمات أو حتى الاحتفاء بالذاكرة وفقط بل في إمكانية صياغة شروط لتعاقد مدني واجتماعي حقيقي يجعل من مفهوم الحيز والاختلاف لبنة لبناء هذا الوطن العزيز على قلوبنا.

ولعل دستور 2011 في ديباجته قد يشكل منطلقا لهذا البناء، على اعتبار أن الشخصية المغربية تمتاز بالتعدد والتنوع تجعلها لها قابلية الانفتاح على هذا التنوع، بحيث أن المشرع المغربي أكد والتزم بحظر كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع إجتماعي مهما كان.

شكل هدا المتن الدستوري تأكيدا على أن المجتمع المغربي له قابلية التعايش واستيعاب الآخر.

*باحث في القانون الدستوري والعلوم السياسية

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)