“مسنود بالبذلة الظباطي”

دور رجل الأمن الذي يفترض أن يكون محوريا وذا أهمية قصوى في بلد يسعى للحفاظ على امتياز الاستقرار من جهة، وترسيخ صورة العهد الجديد الذي يحترم حقوق الانسان ويحتكم للمؤسسات من جهة أخرى يجد ما يعيده لدائرة الاتهام مع كل توثيق جديد يظهر استمرار أساليبه المرفوضة في التعامل مع المواطنين، فمع كل حادثة جديدة يعود الحديث عن العلاقة المعقدة جدا بين جهاز الأمن والشعب، علاقة تفتقد لروابط الثقة والاحترام المتبادل بشكل عام، فهي غالبا ما تخضع لمقاييس أخرى غير المساواة في المواطنة والحقوق. هكذا يمكن بسهولة التمييز بين سلوكين غالبين يطبعان هذه العلاقة، فهي إما ممارسة للتسلط على الأفراد ممن لا حول لهم ولا قوة، وإما السكوت على الإهانات وحتى الاعتداءات التي يتعرض لها رجال الجهاز من طرف من يعتبرون أنفسهم فوق القانون.

تحول جهاز الأمن في المخيال الشعبي المغربي لأداة لتنغيص العيش وتعقيد المساطر وحماية مصالح الدوائر الضيقة هو نتيجة عقود أطلقت فيها يد هذا الجهاز على رقاب وأرزاق المغاربة، وكان الخضوع لها إجباريا تحت حقيقة أن لا جهاز آخر ولا مؤسسة ولا فرد يملك مساءلة جهاز الأمن، ما صنع قطيعة بينه وبين محيطه صار المواطنون بسببها يهابون رؤية سيارة شرطة، أو قضاء مصلحة في إدارة أمنية، كنتيجة لرسوخ قاعدة أنهم متهمون مفترضون في جميع الأحوال مادام أن العكس لم يثبت بعد.

التجاوزات الجسدية أو اللفظية سواء منها التي تحدث داخل مقرات العمل أو خارجها، الموثقة منها والتي لا علم لنا بها يصعب إرجاعها جميعا لمسؤولية أفراد بعينهم وتصنيفها ضمن الحالات المعزولة، لأن الأمر يشبه منهجا متبعا منذ عقود لم تفلح كثيرا التغييرات التي يشهدها البلد في القطع معها. فحتى عندما أثبتت هيئة الانصاف والمصالحة نفسها تورط أجهزة الأمن في انتهاك حقوق الانسان سواء بالاختطاف خارج القانون أو التعذيب وحتى القتل أحيانا، لم يتم تفعيل المسار القضائي لمعاقبة المتورطين، وإن كان الوضع اليوم مغاير للحالة السائدة في فترة سنوات الرصاص فلا يبدو أن ذلك راجع لمجهود بذله القائمون على ملف الأمن وإنما لانتشار الوعي بالقانون وبروز ظاهرة المواطن الصحفي.

اليوم يتم التعامل مع الحوادث التي تخرج للعلن وتصبح شأنا عاما بإيقاف المتورط وإحالته للتحقيق، لينتهي الحدث هنا دون أن يؤثر ذلك على ظاهرة الاعتداءات والتجاوزات ولا أن يساعد في ردم الهوة بين الجهاز والمواطن.

لا يمنع رجل الأمن من ممارسة صلاحياته في العمل أن يعامل المواطن بما تقتضيه صيانة حقوقه الأساسية، حقه في معاملة إنسانية محورها الاحترام، خاصة عندما لا يشكل تهديدا يمكن معه تبرير معاملته بعنف، هذا التأكيد على ضرورة سيادة القانون فيه حماية لرجل الأمن نفسه في حال تعرض هو للتجاوزات، فهي مفارقة صعبة حقا أن يخرق القانون المسؤول الأول عن تطبيقه، وأن يسلب الأمن المعول عليه في توفيره.

صحيح أن الأسباب وراء هذه الانتهاكات صعبة الحصر، لكن الذي يعنينا منها ليس المرتبط أساسا بالدوافع والظروف الشخصية والمعاش اليومي الذي قد يدفع رجال الأمن لتصرفات خارج القانون، كما يحدث كثيرا في حالات استعمار السلاح الوظيفي في الانتحار أو تصفية بعض المقربين (مجزرة مشرع بلقصِيرِي نموذجا) فهذه الأسباب وأن كانت ذات أهمية فلا يمكنها وحدها تفسير جميع ما يحدث من تجاوزات بحق المواطنين، زيادة على أنها تبقى شأنا خاصا بالمصالح الأمنية. لكن المهم هي الأسباب الناتجة عن تقليد أمني يحتقر المواطن ويستحل إهانته.

الأمر إذا بحاجة لمصالحة عميقة تتجاوز شكليات من قبيل تغير الزي وإبداع التسميات الجديدة وتسويق بعض النماذج لرجال شرطة “استثنائيين” وفتح الأبواب فترات الاحتفال بذكرى التأسيس، وليس من قاعدة تعيد بناء العلاقة بين المواطنين وجهاز الأمن كاحترام القانون وتطبيقه بالتساوي والتقييد ببنوده لمحاربة الصورة المترسخة لرجل الأمن الذي يستخدم نفوذه للهيمنة وتحقيق مصالحه الخاصة ولا يعبأ بالجائز والمرفوض، لأن ظاهرة الطغيان المسنودة بالبذلة الظباطي كما عبر عنها الشاعر أحمد فؤاد نجم في إحدى قصائده لم تعد تستقيم ودولة المؤسسات والحداثة.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)