عالم ما بعد كورونا … هل نتصوره كما يجب ؟

منير أزناي 

 

من يسترجع كرونولوجيا توالي الأحداث منذ بداية أزمة كورونا في ووهان إلى اللحظة التي نعيش فيها سيدرك أن الأزمة التي نصرفها اليوم أزمة مختلفة ومعقدة، ليست صحية فقط بل تتجاوز ذلك إلى الاقتصاد والسياسة.

 

لقد اختلفت الأحداث تماماً بين ما حصل منذ انطلاق تفشي وباء كوروناَ وبين الأحداث التي تلت أي وباء آخر مر في العشرية الأخيرة كسارس مثلاً أو إنفلونزا الخنازير أو الطيور أو غيرها من الأوبئة محدودة الانتشار والخسائر الاقتصادية. 

 

إن ما ميز وباء كوروناَ هو تلك اللحظة التي صمتنا فيها جميعاً عبر العالم لنفهم في نفس الوقت أن خطراً كبيراً يهددنا وأن لحظات صعبة قادمة كُتب علينا أن نعيشها جميعاً، وقد عشناها ولا زلنا … لكن السؤال الكبير الذي تشاركنا طرحه لكننا لم نتشارك طرق الإجابة عليه هو سؤال ما بعد الجائحة، وأية تحديات تنتظرنا بعد ذلك؟

 

إن ما ينبغي أن نشير إليه في رحلة البحث عن هذا الجواب، هو أن الارتياح الكبير المسجل عند السواد الأعظم من الإنسان وهو يصور السنين القادمة على نحو كبير من التفاؤل هو ارتياح غير مبني حقيقةً على أسس معقولة علمية وسياسية واقتصادية. بل مبني على إحساس أجوف بتفوق الإنسان لم يسعفه يوماً في البقاء أمام التحديات الكبيرة التي صادفها خلال آلاف السنين التي عاشها.

 

ففي القرن السابق مثلاً لم يكن عالم ما بعد الانفلونزا الإسبانية يشبه العالم الذي تلاها، ولم تعد أبداً توازنات العالم وتحدياته وخريطته الجيوسياسية هي نفسها، وبالنظر إلى الأحداث التي نعيش اليوم والأزمات الاقتصادية المسجلة هنا وهناك والتوترات بين القوى العظمى والنزاعات حول الثروات الطبيعية والمناطق الاستراتيجية لخطوط نقل السلع والبضائع والتجارة الدولية، سنفهم أننا أمام بداية أحداث أخرىَ تشبه في تواليها وسيرورتها التاريخية الأحداث التي أعقبت وباء الانفلونزا الإسبانية وما أعقبها من حروب وأزمات مالية، مع اختلافات بسيطة تفرضها الظروف المختلفة لأننا بكل بساطة في بداية قرن جديد وألفية جديدة.

 

إن هاته التحديات الجديدة التي يتم رصدها على المستوى النخبوي، ينبغي أن تتحول إلى ثقافة تعين الإنسان على إدراك  طبيعة المخاطر التي سيعيش وتساعده على تقبل فكرة أن عالم قبل كوروناَ لن يعود وأن هذا عالم جديد ومرحلة جديدة تفرض نوعاً مغايرا من السلوكيات الفردية الآخذة بعين الاعتبار إكراهات الاقتصاد ونتائج الأحداث الدولية، التي يجد الإنسان نفسه تحت رحمة تبعاتها دون أن يفهم كيف ولماذا ودون أن يملك الآليات لتجاوز ذلك، وعلى سبيل المثال فقد وجد آلاف المواطنين عبر العالم أنفسهم دون دخل مادي بعدما تكسر فجأة ذلك النظام الاقتصادي البسيط الذي ألفو بناءً عليه ضمان قوتهم اليومي، لأنهم لم يدركوا ولم يتوقعوا -كما لم يتوقع أحد- أن وباءً سيأتي وسيوقف كل شيء.

 

وبناءً على هذا الوعي بحساسية المرحلة التي نعيش، فقد صار من الضروري اليوم أن نستخلص الدروس اللازمة من سنتي الوباء الأولىَ ونفهم إلى أي حد أصبح العالم اليوم مترابط الأطراف بشكل لا يتصور، حيث يمكن لوباء ظهر في مدينة صينية أن يوقف العالم مدة سنتين، أو أزمة سياسية وعسكرية بين روسياَ وأوكرانياَ اليوم أن تسبب أزمة في الخبز في دول مصر ولبنان، كما أن أزمة دبلوماسية بين المغرب والجزائر عرقلت حركة نقل الغاز لأوروبا بشكل كامل ! 

 

إن أهم درس يمكن أن نستخلصه اليوم مما يحصل وسط دوامة الأحداث هاته -حسب اعتقادي- هو توقع الأسوء اقتصاديا وسياسيا بشكل دائم، وبناء خطط الدولة وبرامجها على هذا الأساس وتنبيه الوعي الجمعي إلى أن العالم يسير إلى الأسوء وأن الغد المشرق الوردي لا توجد أي إشارات دالة عليه في حين توافر كافة الإشارات الدالة على غد مشحون بالتحديات والأزمات الصحية والاقتصادية والسياسية والعسكري والبيئية…

 

وليس الوعي بضرورة ترشيد استهلاك المواد الأساسية والموارد الطبيعية بدرس أقل أهمية، فالماء والطاقة والغذاء اليوم هي من أهم أسباب الأوبئة والحروب غدا، وهو ما بدأنا ندركه بشكل جلي في مغرب العشريات الأخيرة خاصة مع موجات الجفاف القوية التي تفرض سياسة فلاحية ومائية مختلفة عن السياسات التي اشتغل بها المغرب طيلة هاته السنين، وكما تفوق المغرب في ضمان اكتفاء المغرب من حاجياته الدوائية اليوم وضمن الاكتفاء للغد عبر المشاريع الملكية التي تهم وحدات تصنيع اللقاحات وجب أيضاً العمل على ضمان اكتفاء المغرب من الماء والطاقة والمنتوجات الفلاحية دون المساس بالموارد المائية التي تشكل نواة الحياة وأساس الأمن.

 

بالإضافة إلى ذلك فالعمل على محاربة الجهل والتخلف عبر تقوية البحث العلمي وتطوير جودة التعليم باتت ضرورة لمواجهة المخاطر التي تترصد عالم المستقبل كما تترصد بلدنا، وقد كشف الوباء عديداً من المشاكل في نظام التعليم ووسائل الإعلام والتواصل لم تغطّها سوى بعض المبادرات التعليمية الفردية أو التي أطرها المجتمع المدني أو تلك التي قادها بعض الإعلاميون في الأقطاب الإعلامية العمومية في الوقت الذي تفرض تحديات العالم نمطا من التعليم والإعلام قادرين على صنع الإنسان بمعناه الكامل.

 

وعلى الرغم من أننا لا يمكن أن ننكر أن ما يعيشه العالم اليوم ليسَ سوى فترة وباء فرضته البيولوجياَ، إلا أن ما يحدث اليوم من أزمات يثبت كيف أن الجائحة تجاوزت الصحة للاقتصاد والسياسة ودفعت كل الدول إلى فرض منطق جديد أكثر شراسة في الدفاع عن مصالحها ومواردها وأجنداتها، ما يرغمنا جميعاً على تبني نوع جديد من التفكير أكثر حذرا وأكثرا انتباها يتعامل مع الوقائع و الأحداث بجدية أكبر وباعتبار أقوى لما يمكن أن تسير إليه الأوضاع في السنوات القادمة.

 

ليس الهدف من هذا المقال خلق محتوىَ سوداوي يساعد على بث الرعب في نفوس المواطنين ويساعد على ترسيخ فكرة نظرية المؤامرة بل على العكس من ذلك هو محاولة  لخلق نوع من الوعي السياسي والاقتصادي بشكل مبسط ومختصر يساعد الإنسان على فهم ما يجري وتوقع ما سيقع وتقبل أن الوباء الذي نعيشه هو فترة ستمضي لامحالة لكنها فترة سيكون لها ما بعدها من أزمات اقتصادية وتوترات سياسية وعسكرية ستكون في اعتقادي صعبة وطويلة الأمد، لأن عالم ما قبل وباء كورونا انتهىَ ليفسح المجال أمام عالم ما بعده، بتوازناته المختلفة، وصراعات الألفية الثالثة، ومحاولات الدول التي خسرت الحرب العالمية الثانية أن تستدرك ما فات وتسعى بدورها لتجد لها موقع قدم في ساحة المصالح الدولية التي لا تراعي بالضرورة تطلعنا الذاتي بعودة عالم ما قبل الوباء. 

 

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)