كتب بحبر من الزعفران والمسك.. الربعة المغربية مصحف خطه سلطان مغربي وأهداه للأقصى قبل 7 قرون

قبل نحو 7 قرون أراد السلطان علي أبو الحسن المريني من المغرب الأقصى أن يترك أثره في المسجد الأقصى، فنسخ بخطه الحسن مصحفا تصدّر المخطوطات القرآنية في القدس لفرادته وإتقانه، وظل حتى يومنا هذا شاهدا على الفن الإسلامي المغربي وحب أهل المغرب للقدس ومسجدها.

يحتضن المتحف الإسلامي في المسجد الأقصى المصحف الذي يعرف بـ”الربعة المغربية”، لأنه حفظ في صندوق مربع الشكل من خشب الأبنوس المزين بالفضة الملونة، وقسّم الصندوق عدة أقسام من الداخل لتضم المصحف بـ30 جزءا منفصلة، بالإضافة إلى أوراق وقفيته.

 

وحسب وقفية “الربعة المغربية”، فإنها نُسخت عام 1344م بخط السلطان أبي الحسن المريني، ثم أرسلت كهدية منه تشريفا واهتماما بالمسجد الأقصى فأوقفها وأوقف عليها أملاكا وعيّن عليها من يقرؤونها، وهي محفوظة في خزانة قبة الصخرة.

جاء في شروط الوقفية أن تقرأ الربعة داخل قبة الصخرة بعد طلوع الشمس في كل يوم ختمة كاملة، ثم تتلى بعدها سورة الإخلاص والمعوذتين والفاتحة وأوائل سورة البقرة، ويُصلى على النبي عليه السلام ويُدعى للواقف ووالديه وذريته وجميع المسلمين، كما اشترط أن يكون القارئ من حفظة كتاب الله وأهل الخير والصلاح.

الصندوق الخشبي المربع الذي احتضن “الربعة المغربية” (الجزيرة)

أمير المسلمين حسن الخط والخُلق
كان السلطان أبو الحسن المنصور بالله المريني -ولقب بأمير المسلمين- من كبار بني مرين، وهم سلالة أمازيغية حكمت المغرب، وكان دمث الأخلاق حسن الفهم متواضعا، وعرف بتقواه الشديد وخطه الحسن الذي ورثه عن والده، كما وحد أثناء حكمه أجزاء المغرب الأقصى والأدنى، وبنى العديد من المؤسسات التعليمية والدينية كالمدارس والكتاتيب والمساجد.

اعتبر السلاطين المسلمون على مر التاريخ المصاحف من أشرف الهدايا وأقيمها، فكانت تكلل بالمواكب المهيبة وتدفع كهدايا لتقوية الصلات السياسية والدبلوماسية بين الدول، خصوصا بين المشرق والمغرب الإسلامي، وكان سلاطين المغرب يتطلعون إلى مصر والمشرق باعتبار المغرب امتدادا للعالم الإسلامي.

وبالنظر إلى “الربعة المغربية” فقد عاصر السلطان أبو الحسن المريني السلطان المملوكي الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون، وقد أهداه السلطان أبو الحسن 3 ربعات كتبها بخط يده، واحدة أوقفها على الحرم المكي، والثانية على الحرم النبوي، والثالثة على المسجد الأقصى، ولم يتبق من تلك الربعات اليوم إلا ربعة الأقصى.

الباحثة سمر بكيرات في معرض الكتاب بالمغرب عام 2020 حيث تلقت دعما من وكالة بيت المال لطباعة دراستها (الجزيرة)

دراسة مفصلة حديثة
ذكر العديد من الباحثين “الربعة المغربية”، لكن لم تفرد لها دراسة أكاديمية كافية حتى عام 2020، حيث أصدرت الباحثة المقدسية وخبيرة ترميم المخطوطات سمر نمر بكيرات دراسة تاريخية عن فن كتابة المصاحف في العصر المريني، وحللت الربعة من الناحيتين المادية والفنية ضمن علم دراسة الأثر المادي للمخطوطات (الكودكولوجي)، وهو علم حديث نشأ لدراسة المصاحف المبكرة.

تقول الباحثة للجزيرة نت إن دراسة الربعة تتطلب صبرا ومجهودا كبيرا، فقد تفحصت الربعة بكامل أجزائها ضمن منهجية مدروسة، وفككت أحد أجزائها لمعرفة مكوناتها وتفاصيلها المادية وطريقة خياطة الكراريس وتحليل طرق تزويق الجلود على أغلفتها، وتحليل العناصر الكتابية والزخرفية وإعادة رسم العديد منها.

غلاف أحد أجزاء المصحف المزدان بالزخارف النباتية والهندسية الملونة (الجزيرة)

ضياع بعض أجزائها
ساعد صندوق الربعة على بقائها بحالة جيدة، إضافة إلى أنها كتبت على “الرق” (الجلد) الذي لا يتآكل مثل الورق، وتقول الباحثة إن 5 أجزاء فقدت منها، فأعيدت كتابتها في الفترة العثمانية على يد الحاج مبارك بن عبد الرحمن المالكي عام 1807م، وضاع عام 1932 الجزء الـ30 منها، فأمست اليوم 24 جزءا فقط بخط السلطان المريني.

كتبت الربعة بحبر صنع من مواد معطرة مثل الزعفران والمسك المخلوط بالحبر الكربوني، كما اعتمد الخط الكوفي بأنواعه البسيط والمورق والمضفور لكتابة عناوين السور وخواتيمها، أما متن المصحف فكتب بالخط المغربي المبسوط الخالي من التزويق.

وتبين الباحثة أن كل جزء من الربعة يتكون من 12 كراسة بواقع 5 أسطر في كل صفحة مربعة، وتعمّد تجليل الخط وتكبيره تقديسا لكلام الله تعالى.

الوقفية الموجودة في كل جزء من “الربعة المغربية” وكتبت بماء الذهب (الجزيرة)

إبداع بالتزيين والزخرفة
لاحظت الباحثة تميز الربعة باللوحات التزينية المتنوعة في بداية كل جزء والغنية بالعناصر الزخرفية الهندسية والنباتية والملونة بألوان زاهية، والتي بدت جلية في فواصل الآيات والأخماس والأعشار والإطارات الإبداعية التي عكست جمال الفن الإسلامي في المغرب بالعصر المريني.

وعن الغلاف والتجليد، تقول الباحثة إنه كان في غاية الجمال والدقة وزين بإطار مجدول مطرز بخيوط الذهب والفضة بوجود أشرطة كتابية من الخيوط ذاتها، أما صندوق الربعة فكان مزينا ومغطى بالجلد وأشرطة خيوط الفضة المجدولة والفضة المكفتة المزدانة بزخارف هندسية ونباتية خلابة، في دلالة على تقدم فن الزخرفة في المغرب وتباينه عما هو متبع في المشرق.

الباحثة بكيرات أعدت دراسة تفصيلية متكاملة عن “الربعة المغربية” في المسجد الأقصى (الجزيرة)

قيمة تاريخية عظيمة
وحسب الباحثة، فإن أهمية “الربعة المغربية” نبعت من أهمية القرآن الكريم عند المسلمين، بالإضافة إلى نسخها بيد السلطان نفسه، الأمر الذي يندر حدوثه، إلى جانب أنها النسخة الوحيدة الباقية من مصاحف السلطان أبي الحسن التي ذكرت في الأدبيات الإسلامية.

وتضيف أن “هذه النسخة قيمتها التاريخية كبيرة ولا تقدر بثمن بالنسبة لأهل القدس، وأيضا بالنسبة للمغاربة، فهم يعتزون بها كونها من الأدلة التاريخية على مدى اهتمام سلاطين وأهل المغرب بمدينة القدس، فلهم عقارات وبيوت ومصاحف كانت تقرأ يوميا في المسجد الأقصى”.

يذكر أن مصاحف عدة أوقفت في المسجد الأقصى من سلاطين وأمراء مسلمين، خصوصا في الفترتين المملوكية والعثمانية، مثل مصحف السلطان برسباي، وهو أكبر مصحف في المتحف الإسلامي، ومصحف أنور باشا وربعة السلطان مراد.

المصدر : الجزيرة
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)