“ولولة الروح”..إيقاعات الزمن المنسي

فريد بوجيدة

” ولولة الروح” ، هو الفيلم الثاني ضمن علاقة ثقافية مثمرة تجمع الكاتب والسوسيولوجي عثمان أشقرى ، بالمخرج والناقد السينمائي عبد الإله الجواهري بعد فيلم ” هالا مدريد فيسكا بارسا “. نقول مثمرة لأنها تجمع الكتابة كأسلوب تعبيري له عوالمه الخاصة ، والإخراج كصياغة بصرية ، ورؤية عميقة للمكتوب. وللمُبْدِعَيْن معا تجارب ومعرفة  وتراكم ممتد ومميز ، للأول سيرة معرفية مشرقة ، في البحث والتدوين ، وللثاني تاريخ سينمائي متعدد الأوجه ، وحضور ملفت على مستويات متعددة .  

 

 “ولولة الروح ” ليس فيلما عاديا  بل “رسائل” كتبها بعمق الكاتب عثمان أشقرى ، وأخرجها بذكاء المخرج عبد الإله الجواهري ، حكاية  لا تشتغل لوحدها ، لأنها لا تروى بصيغة كان يا ما كان ، بل بصيغة محكمة يحضر فيها الفن والسياسة ، والتاريخ.  هي حكاية موثقة بالإحداث والأماكن والآهات ، وتستند إلى وقائع وشهود من الماضي والحاضر . كل ما في الفيلم يتكلم بطريقته ، الفضاء والصورة والموسيقى والرموز  ، وكل ما هو لغة ، هكذا يمكن أن نحدد الأدوار الحقيقية لكل مكونات الفيلم من البداية إلى النهاية . ماهي “رسائل” الكاتب، وكيف جعلنا المخرج نصدقها بتفكيك دلائلها المشفرة ؟  

 

قبل أن ندخل الحكاية، ينبهنا المخرج إلى أن ما سيقصه مستوحى من الواقع حتى وإن كانت الأحداث روائية ، وهو يبدو وكأنه توجيه أولي ، بتداخل الروائي والواقعي ، لكنه في نظرنا  “دليل” رقم واحد للتشفير القادم ، وإذا كان بعض المخرجين ، يبعدون كل تشابه بين أفلامهم و الواقع ، فإن “ولولة الروح ” بالعكس يريد استحضار هذه العلاقة وإثباتها صوتا وصورة ، ولا يدع المشاهد يبحث عن حلول لفك الألغاز ، وهو الفرق بين هذا الفيلم وأفلام أخرى لا قضية محددة تشغلها . من هنا  يشير دليله الثاني إلى زمن الحكاية ، وبكثير من الوضوح والكثافة أيضا .

 

يبرز المشهد الأول المكان ، و يحدد الثاني الزمان ، هكذا يجعلنا المخرج ننظر من بعيد إلى ما يملأ الكادر ؛ ويظهر جبل الفوسفاط ، وعربة مهترئة تسير ببطء وتخترق أفقيا المشهد ، لنعرف أننا في مدينة خريبكة . هذه الصورة تكفي لتحديد معالم الهامش ؛ ونكتشف أن الفيلم  نداء من العمق الجغرافي من أجل الحقيقة ، أولم يقل شارلي شابلن “إن السينما تخدم الحقيقة ، والحقيقة هي معرفة الواقع” . 

 

ندخل الحكاية من الباب الواسع ، تأطير عام لهامش المغرب و إشارة لزمن الأحداث ، و حركة بطيئة لعربة تقطع مساحة الشاشة من اليسار إلى اليمين ، وهي نفس العربة التي ستندفع في العمق عند نهاية الفيلم ، ومثل العربة تندفع الحافلة في بداية الفيلم إلى الأمام  ، و تعطينا ظهرها في المشهد الأخير ، وقبل أي تأويل مسبق ، نُقر أننا في نفس المكان وأمام واقع مكشوف ، لكنه غير مرئي، لأنّ التكوين البصري المكشوف لا يمثل المرئي إلاّ في حدود ما هو دال ، أي أنه لابد لنا من ربط كل المتون المحكية والتي تتمثل في شكل تفريعات متعددة و متداخلة بين الكتابة  والصورة والموسيقى . .. لم تكن المشاهد الأولى مسحا بصريا لفضاء الأحداث فقط بل رؤية للتقاطع الممكن (قوة وفعلا) بين الماضي والحاضر؛ على طريقة المسرح اليوناني؛ في مقدمة الإطار ( لسان الخشبة في المسرح ) يتقدم أربعة أفراد (رجلان وامرأتان )، وفي الخلفية بياض يشهد على تراث ثقافي ساكن، يتوقف الزمن لحظة ،  ويبدأ العرض . و يعلن ” البرولوغ” (مثل المسرح اليوناني القديم) عن استحضار اللحظة و الزمن والتاريخ.

 

 تتحرك الحافلة إلى الأمام ، ونتعرف على الشخصية الأولى (الضابط إدريس)،  ويفتح الباب على اليسار ويدخل عبد الفتاح (وهو الشخصية الثانية بعد إدريس ) ، ومن زاوية أخرى نتعرف على الشيخ الروحاني (وهو الشخصية الثالثة ) ثم باقي الشخصيات الأخرى ، ومن خلالها نطل على مغرب السبعينيات و هواجسه ؛ هاجس المعرفة ( الفلسفة، السينما ،الأدب والموسيقى الشعبية ) ، والهاجس الأمني (السلطة في كل تجلياتها ). وإذا كانت المعرفة طريقة  للتعبير عن الحقيقة ، فالسلطة تَحَكُم وتوجيه ، و ضمن هذا الأفق تسير الحكاية وتتصاعد عبر “محكيات” صغرى مرتبة ترتيبا مُحكما ، وعلى إيقاعات فن “العيطة” تكون المواجهة الدرامية بين عالمين متناقضين ؛ فالشخصيات الثلاثة ( إدريس وعبد الفتاح والشيخ الروحاني ) تبحث عن شيء ما ، كطريقة معينة لإثبات الذات ، يبحث الضابط ادريس ( وهو طالب سابق في شعبة الفلسفة ) عن نفسه وهو يحقق في جريمة قتل ، ويبحث عبد الفتاح ( وهو مناضل يساري ) عن أسرار “العلوة ومواليهاّ” وهو مشدود إلى خفايا “القاع”  ببعده الجغرافي و الفني ، ثم يبحث الشيخ الروحاني ( وهو من رواد فن العيطة ) عن تجليات رؤاه “الصوفية”. أما الشخصيات الأخرى ،فهي تحمي شيئا موجودا تدافع عنه كطريقة لتثبيت السلطة ، وتظل السلطة موجودة ـ كما تقول حنا أردنت ـ ” طالما ظلت المجموعة بعضها مع بعض ” وفق تنظيم متناسق، يتقدم المسؤول الكبير ، والمسؤول الصغير ، ثم الأصغر ، ولكل واحد دوره داخل هذه المجموعة. وهكذا تتحدد هرمية القرار ، ومعها تتحدد الأدوار والمواقع بين العميد والمسؤول “الكبير” ، بين الضابط والعميد ، وبين المدير والحارس ، هو درس لم يتلقاه “ادريس” في شعبة الفلسفة، ولم يتعلمه في ساحات الجامعة على حد تعبير عميد الشرطة. 

 

في “الحطة” الأولى تحضر ” العيطة” كمكون تعبيري من ضمن مكونات أخرى مؤطرة  للحكي ، لكن الحكاية الكاملة لا تفهم إلاّ ضمن منظومة تعبيرية رمزية قوية وعميقة ، يتفاعل فيها الواقع مع المحكي الشبه أسطوري ،  ترى من تكون “شهيبة بنت الفاسي ” فإذا كان الأثر الدال (جثة الكاريان ) يشير إلى جريمة قائمة الأركان ، فكيف تحوّل هذا الدال إلى دليل إدانة ؟ 

 

في “الحطة ” الثانية يكون الفيلم وفيا للبرولوغ الأول ، ويستحضر الزمن والتاريخ ، ليتقاسم المخرج مع المشاهد لحظة تقاسم الأدوار بين “منانة” خطيبة عبد الفتاح  وهي المناضلة الثورية التي اختفت أو اختطفت ، وبين منانة خربوشة ، وهي المتمردة التي واجهت بطش السلطة بالشعر والغناء ، وبين سعيدة المنبهي وهي مناضلة وشاعرة أيضا و إحدى أيقونات اليسار السبعيني في المغرب. (والمصير المشترك لهذين الإسمين هو الذي جعل المخرج يهدي لهما معا فيلمه ، ويهدي للمتفرج الدليل الأولي للقراءة).  

     

في “الحطة” الثالثة ، تنكشف المواقع ، ليعرف كل واحد دوره الحقيقي ، يعتقل عبد الفتاح ويُرَحّل إلى الرباط، تختفي خطيبته منانة ، ويضع المخرج بطل الرواية  (إدريس) أمام المرآة ، وبتأطير ذكي يجعله داخل مأساة حقيقية ، ولعل تلك الصرخة الأخيرة هي التجسيد الفعلي لعنوان الفيلم ” ولولة الروح ” .

 

 دخلنا الحكاية بقدوم الحافلة إلى مدينة خريبكة ، وخرجنا ونحن نعتقد أن الحكاية انتهت بخروجها  (الحافلة) ، لكن حتما سنتساءل لماذا ظلت “الكمنجة ” بكماء ، ولماذا لم تنطق إلاّ في الدقيقة 83 من زمن الفيلم  ليعلن الشيخ الروحاني عن علامات “الحق ” ؟

 

  قد يتساءل المشاهد العادي عن العلاقة بين قصة الفيلم و”فن العيطة ” ، وهو يدرك تماما أنّ هذا النمط الغنائي كفعل فني  (وبغض النظر عن مضمونه) لا يناسب أجواء السبعينيات، ، كما يطرح القارئ الذكي هذا السؤال : هل رغبة عبد الفتاح وطموحه المعرفي (وهو الأستاذ والمناضل اليساري)  كافيان لتوظيف “فن العيطة” وفواصله الإيقاعية في تنسيق مسارات الحكي ، وفصوله الدرامية ؟  

 

قبل أن يجيب الفيلم عن هذه الأسئلة لابد من التذكير بأنّ العمل الفني عموما  ـ كما فسره فرويد ـ هو وسيلة لتحطيم الحواجز ما بين الحالات الفردية وتوحيدها جميعا في حالة الأنا الجماعية ، وهي  في هذا السياق النقطة التي يلتقي فيها الجانب الروحي ( الشيخ ) والمعرفي ( عبد الفتاح) والمتعة الحسية ( إدريس …) وهي أقرب إلى التقسيم  الذي وضعه الشيخ الروحاني للنفس ( الزهوانية ، الروحانية ، الربانية ) والرجل الصوفي كما نعلم هو أيضا فنان ، ” ولا يصبح الصوفي الحقيقي واعيا لهذه الحقائق السامية دون أن يكون ملهما في آن واحد “. ومن جهة أخرى بالرغم من ارتباط جيل السبعينات بالغناء الملتزم ، ظلت الإيقاعات الاحتفالية هي الطابع الأساسي للحياة  الجمعية ” حيث تعبر بدرجة عالية من القوة عن ممارسة الأدوار الاجتماعية ، وممارسة الرموز التي تتضمنها ” ، ومن هنا لم يكن الفيلم صرخة في واد بل إضافة جمالية أضفت الحياة للفضاءات الميتة ، وتعبير عن وعي جمعي ، واعتراف بالشهود والشهداء .   

 

ناقد سينمائي

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 1 )
  1. نجيب :

    قراءة موفقة من ناقد حصيف

    0

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)