سينما باريس .. ثقب في ذاكرة وجدة

عبد السلام المساوي
وأنا صغير ، وأنا تلميذ بإعدادية الكندي ، وأنا تلميذ بثانوية عبد الكريم الخطابي بمدينة الناظور طبعا ، ألمدينة التي رضعت حبها في حليب أمي ، غنيت حبها باللغة الأمازيغية في مختلف إنتاجاتها وألوانها ورقصت على إيقاعاتها وأنغامها . في مرحلة الطفولة ، إذن ، وفي مرحلة المراهقة بشغبها وأحلامها ، إكتشفت مدينة مغربية ، وكنت أجهل مدى قربها أو بعدها عن مدينتي، لقد كنا نحيا في عالم مغلق ومنغلق ؛ أبواب هذا العالم موصدة بفعل شروط ذاتية وموضوعية .
تعرفت على وجدة عبر أمواج الإذاعة ؛ إذاعة وجدة الجهوية ، وتعرفت على وجدة من خلال معلمتين بارزتين دالتين على شموخ هذه الحاضرة العريقة ؛ ويتعلق الأمر بمعلمة فنية وأخرى تربوية : سينما باريس وثانوية عمر بن عبد العزيز ، تعرفت على الأولى عبر الأثير ، عبر أمواج الإذاعة الوطنية والجهوية ، عندما كانت تبث الوصلات الإشهارية والإخبارية المتعلقة بالتظاهرات الثقافية والفنية التي كانت تجوب المدن والأقاليم ، وكانت سينما باريس هي الفضاء الذي يستقبل مختلف التي تنظم بوجدة ، وهكذا كان يتم تسويق إسم مدينة من خلال سينما باريس . المكان ، إذن ، ليس مجرد مكان ، بل كان رمزا ثقافيا وحضاريا ، رحابا للفن والإبداع .
وجدة ، المدينة التاريخية ، الغنية بتراثها وفنونها ، الحية بإنتاجاتها وإبداعاتها …كانت تفتقر إلى فضاءات عمومية لإحتضان الندوات والمحاضرات ، اللقاءات والتظاهرات ، العروض الفنية والمسرحية …وكانت سينما تغطي هذا العجز وتعوض هذا الفقر ، وكانت ترحب بأهل الفن والإبداع ، برجال ونساء الفكر والسياسة …
سينما باريس، إذن ، لم تكن مكانا عاديا ، بل كانت معبدا للثقافة والفن. عشقت هذه السينما وأنا طفل ، والأذن تعشق قبل العين أحيانا ، عشقتها وكنت أحلم بالصلاة في أحضانها مع الفنانين والمبدعين ، مع المثقفين والمفكرين . أكتوبر 1980 سيتحقق الحلم ، سيصبح واقعا . زرت المكان فوجدته أجمل من الحلم وأبهى من الخيال ؛ هو نادي ومنتدى ، هنا الوعي المؤسس للنضال ؛ النضال الإجتماعي والسياسي …
في سينما باريس ، وفي إطار نادي السينما الذي كان يسهر على تسييره وتنشيطه الأساتذة الفرنسيون بوجدة ، خصوصا أولئك الذين كانوا يشتغلون بثانوية عمر بن عبد العزيز ، شاهدت أفلاما خالدة من حيث الصناعة السينمائية ، الإبداع السينمائي والمضمون الإنساني …أفلاما للعرض والمناقشة، وكانت المناقشة خصبة ومنتجة ، تكشف عن خلفيات الإنتاج وأبعاده ، المناقشة التي أكسبتنا ثقافة سينمائية ، فمداخلات أهل الإختصاص في النقد السينمائي ، الإبداع الفني ، الإنتاج الفكري والفعل السياسي كانت مدرسة في التربية والتكوين .
في سينما باريس عشقت المسرح من خلال المسرحيات التي كانت تعرض في هذا الفضاء الذي كان يعوض غياب قاعة للمسرح بوجدة . دخلت فن المسرح من خلال المسرحيات الرائعة التي أبدعها المسرح العمالي بريادة الراحل الأستاذ محمد مسكين : ( تراجيديا السيف الخشبي ) ، ( إمرأة ، قميص وزغاريد ) وأخرى كثيرة … مسرحيات أرخت لمرحلة مضيئة في تاريخ وجدة الثقافي ، قمة العطاء الفني …الثقافة سيدة الميدان والإبداع عنوان وجدة .
في سينما باريس تعرفت على كبار الفنانين والمطربين المغاربة ، على رجال الدولة والسياسة ، على رموز النضال والتغيير ، على أعلام العلم والفكر ، على الروائيين والشعراء …
سينما باريس ، مسار طويل وغني ، هذه المعلمة الثقافية دمرت ؛ زمن الثقافة ولى ، زمن الإبداع إختفى . إنتصر الإسمنت على الفن واغتصبت الأحجار الأشجار …انهارت سينما باريس لتعلو العمارة ؛ إنه زمن العقار . ولنا في الذاكرة عودة إلى الإنسان ، ورجوع إلى الزمن الجميل . ولنا في مسرح محمد السادس البداية ، لنا الأمل في البقاء والإستمرار.
يسجل التاريخ إقتلاع معلمة ثقافية لتتحول إلى قصة يحكيها الكبار للصغار ؛ وكانت هنا ، ذات زمان ، سينما باريس !!!

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)