باحث في الفلسفة: المدرسة المغربية تشكو من كثرة إغراقها في الدرس النظري

أجرى الحوار/ بوجمعة الكرمون

عبد الإله حبيبي، الباحث المغربي في الفلسفة، ومفتش مادة الفلسفة، قضى ما يزيد عن 30 سنة فاعلا، ومنفعلا، ومفتعلا، يبحث عن موقع متقدم للتفكير الفلسفي داخل النسق المجتمعي المغربي، من منطلق الحق في الحرية، والإبداع، وما يسم المعمار المفاهيمي لخطاب العقل.

 

في هذا الحوار، يتحدث صاحب رواية “بيوس أو طفل الحكمة و الطقوس”، العاشق لمنطقة الأطلس المتوسط، عن اختلالات المنظومة التعليمية في بلادنا، وعن دور هيأة التفتيش التي ينتمي إليها، وكذا عن أحوال “العقل” في مجتمع كالمغرب.

 

كمدخل أول كيف تقومون اختلالات المنظومة التربوية؟

 

في البدء ينبغي الإشارة إلى أن المنظومة التربوية الحالية هي في عمقها نتاج مسار طويل من التطور والنمو، والتوقف والنهوض والتوعك، بمعنى ليس هناك شيء في مجال التربية يمكن التعامل معه باعتباره وليد اللحظة أو ناتج عن ممارسة لهذا الفاعل أو ذاك. لهذا فالجانب التاريخي هو زاوية نظر مهمة جدا لما لها من قيمة من حيث المعطيات الأولية التي من خلال قراءتها يمكن فهم الكثير من الاختلالات التي تعاني منها المنظومة التربوية.

 

  في هذا المستوى يمكن استنطاق القرارات السياسية التي اتخذت في زمن مضى، والتي كانت لها تداعيات نوعية على مستوى المسار الذي انجرفت نحوه المدرسة المغربية، ولأن المجال لا يتسع هنا لتحليل وتقويم وعرض نتائج السياسات السابقة التي مورست في مجال تغيير بوصلة المنظومة التربوية ببلادنا، سأكتفي بالتوقف عند بعض الاختلالات التي يكاد يتفق الجميع على اعتبارها بمثابة العوائق التي تحد من فعالية ومردودية هذه المنظومة.

 

عانت المدرسة المغربية ولاتزال تشكو من كثرة إغراقها في الدرس النظري، الذي ورغم أهميته من الناحية العلمية والحضارية، فإنه يصادر من حيث لا ندري حقوقا بيداغوجية أخرى هي من متطلبات الفعل التربوي المنتج والملموس. البرامج التي ندرس متقدمة معرفيا، سواء في مجال العلوم أو الرياضيات أو العلوم الإنسانية، لكن السؤال الذي يعكر صفو هذا الفرح هو لماذا لا يكتسب التلاميذ من هذه المعارف الكفايات التي تؤهلهم لممارسة التفكير، والإبداع، والكتابة، وتكوين المواقف الشخصية خلال مسارهم الدراسي؟ لماذا لا يتحكم التلاميذ في اللغات التي يدرسون والتي بها تدرس بعض المواد الدراسية؟ هل الأمر يتعلق بالأساليب المتبعة في التدريس أم أن هناك ما هو أبعد من ذلك كعدم فهم وتحليل البنية التمثلية للتلميذ المغربي حتى نكيف التدريس معها ونجعله يوافق أساليبها في التلقي والفهم والاحتفاظ؟

 

وماذا حول علاقة المناهج الدراسية بالمحتويات ؟

 

المنهاج الدراسي يفترض فيه أن يكون مشتقا من دراسات أجريت على التلميذ المغربي، من حيث سلوكه العقلي في القراءة والكتابة والفهم والتحليل والاستنتاج وغيرها من القدرات، ثم من جهة سلوكه النفسي أثناء مواجهة المشكلات التي تعرض عليه، أو المواقف الحرجة والمعقدة التي تفرض عليه، أو الصعوبات النظرية والوجدانية التي يجد نفسه مقحما فيها، وتتطلب منه سلوكا خاصا لتجاوزها، أو حلها أو فهم تفاعلاتها لإنتاج رد فعل مناسب وذكي.

 

هكذا فالمنهاج الدراسي ليس مجرد مبادئ عامة أوتوجيهات مختصرة تؤطر بشكل سطحي طريقة التدريس والتعامل مع البرامج. هنا أقول أنه مادمنا لم ننتج منهاجنا الدراسي فلن نكون قادرين على خلق المصالحة بين التلاميذ والمدرسة التي نقترحها عليهم.

 

هل من توضيح أكثر في هذا الباب ؟

 

أعود لمعالجة جانبا من هذه الأسئلة النوعية، بحيث أرى أن الدرس النظري ينبغي أن يعاد فيه النظر، وذلك بأن نخصص مجزوءات لممارسة أنشطة تطبيقية تكون مصاحبة للدرس، ومنصوص عليها في جدول حصص ويمكن مراقبتها وتتبع مدى الالتزام بها، ومدى جدواها بالنسبة للتلاميذ. فبالنظر للبرامج الحالية نكتشف أنها كلها تقريبا تقدم مجزوءات نظرية على حساب الأنشطة التطبيقية التي هي الأساس في التعلم واكتساب القدرات والمهارات، أي ممارسة المواجهة مع الأسئلة، والصعوبات، والمشكلات، والتمرن على اختيار الحلول والأساليب المناسبة من لدن التلميذ؛ إنها الطريقة التي تمكن التلميذ من تجريب الأدوات المقترحة عليه من جهة، كما تسمح للمدرس بالتعرف على مكامن الضعف في أداء التلاميذ من جهة أخرى.

 

إن اليد التي لا تشتغل إلى جانب العقل هي يد مشلولة، والعين التي لا تلاحظ خلال الدروس هي عين كفيفة، والأدوات التي تكدس دون أن تستعمل هي غير ذات قيمة في نظر من يمتلكها . لهذا فمشكلة الجودة هي في غياب عمل ملموس يقوم به التلميذ وينتجه من خلال ما تعلمه في الدرس النظري.

إلى أي حد تساهم هيئة التفتيش من موقعها في مواكبة التقويم والإصلاح التربوي؟

 

تجربتي كمدرس ثم كمفتش للتعليم الثانوي لمادة الفلسفة والتي أشرفت على الثلاثين سنة قد تسمح لي بأن أرصد بعض مكامن الخلل التي أحاول النظر إليها دون تهويل أو تهوين. يتعلق الأمر بظواهر وممارسات وتشريعات ورؤى تستوطن الجسد التعليمي وصارت منه بمثابة الجوهر الذي يعيد إنتاج علله، ويحكم عليه بإنتاج نفس المنتوجات التي قد تكون مضادة لما هو منتظر منه إنتاجه في خضم الحماسة السياسية والتفاؤل المفرط الذي لا يستند لمؤشرات موضوعية.

 

تقوم هيئة التفتيش بأدوار دقيقة جدا من الناحية البيداغوجية والتنظيمية قد لا يراها من يرتكن لرؤيا خارجية عن مجال الممارسة اليومية لهذه الهيئة. فالسؤال الذي يطرح نفسه بشكل مباشر هو من يقرأ تقارير المفتشين، وهل يتم العودة إليها حينما يتم التفكير في كل إصلاح للمنظومة التربوية، وهل هناك جهة أو مصلحة تنهض بمهمة قراءة تقارير المفتشين الخاصة وتقاريرهم الجماعية حول ما يرصدونه من ظواهر تحد من فعالية المنظومة ومن إيقاعاتها المفترضة؟

 

هذا سؤال مهم وله علاقة بمدى قدرتنا على استثمار منتوجنا التربوي الوطني حينما نريد فعلا إنتاج مناهج دراسية مشتقة من صميم مشكلاتنا، ومن عمق تجربتنا البيداغوجية والتنظيمية المؤسسية.

 

من موقعكم كمتخصص في الفلسفة، ماذا عن أحوال التفكير الفلسفي وآفاق تدريس الفلسفة؟

 

سؤال أحوال التفكير الفلسفي في المغرب هو سؤال عن أحوال العقل والحرية والإبداع، بحيث لا مجال لطرح سؤال التفكير الفلسفي ببلادنا دون التفكير في الإنتاج الفكري الذي يعالج هذه المواضيع، وينتج بصددها خطابا تأصيليا منافحا عن ضرورة ترسيخ وجودنا السياسي العام في صيرورة تاريخ التفكير البشري الكوني، الذي في خضمه ظهرت الفلسفة وتطورت وأنتجت سياقات ثقافية مناوئة لكل أشكال الحجر والظلم والاستيلاب التي مورست تحت أسماء شتى على النوع البشري من لدن أنظمة اجتماعية أو سياسية أو دينية أو أو ليغارشية على مر التاريخ.

 

من هنا ستكون الفلسفة هي الخطاب الذي فيه تتجلى مفاهيم الحرية والعدالة، وتتضح من خلال تصوراته آفاق عالم ممكن غير الذي يسود كمعيش ملتبس، هذا لا يعني أن الفلسفة نبوءة أو إخبار عن الغيب، بل هي ممارسة فكرية نقدية تتنفس من الأجواء العامة التي تحيط بها حتى تستطيع الإشتغال وبناء مفاهيمها ونظرياتها التي تقدمها وتقترحها على مجتمعها كوسائل لفهم ذاته بشكل عقلاني، ولتخيل مستقبله بشكل واقعي انطلاقا من تحليل موضوعي لإمكانياته الذاتية ومؤهلاته التاريخية.

 

بهذا المعنى تكون الفلسفة بمثابة ذلك الخطاب الذي يعلم المجتمع كيف يستثمر طاقته الفكرية ومواهبه المعرفية ليكون قادرا على تعبئة كل قواه الروحية قصد تحقيق حراكه التاريخي إلى جانب الشعوب التي قامت بنفس التجربة وحققت موعدها مع التاريخ.

 

اليوم تدرس الفلسفة بالمدرسة المغربية بمقاربة بيداغوجية متقدمة تروم الاشتغال على نصوص الفلاسفة من خلال مفاهيم محددة، لكن ما ينقص هذا التدريس هو غياب أسئلة التراث وإشكالاته وقضاياه التي تستعمل أحيانا كموانع لكبح ولجم كل النزوعات التحررية التي تجد نفسها محل انتقاد باسم الخصوصية والذاتية المبالغ في تقديسها.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)