أبو الخير : بكى في سوريا .. و في المغرب…

“أبو الخير” صانع أسنان  سوري، في السبعينات من عمره، هرب من جحيم الحرب، بعد أن قُتل معظم  أفراد عائلته.

بينما نجا بأعجوبة رفقة زوجته الستينية، وثمانيةٍ من أبناء أخيه من تحت وابل القصف الذي حول منزلهم وعيادته الطبية التي كان يشتغل بها إلى ركام. لم يعد لدى العائلة من ملجأ آخر سوى الهجرة  إلى المغرب عبر الحدود الجزائرية والاستقرار مؤقتا في مدينة وجدة.

هنا بحي السلام، بمدينة وجدة، قرب “السويقة”، يكتري “أبو الخير” منزلا متواضعا منذ خمس سنوات، قسّمه إلى قسمين، جانب خصّه لممارسة مهنته التي وفِد بها من بلده كصانع أسنان، والجانب الآخر،  للسكن حيث يعيش تحت سقفه كل أفراد عائلته التي تضمه هو وزوجته. بالاضافة إلى أبناء أخيه الذين أصبحوا عبئا ثقيلا مُلقى على عاتقه بعدما فقدوا والدهم في بداية الحرب.

“أبو الخير”، يستيقظ  باكرا كالعادة، يهيء طاولة فطور بسيطة، عبارة عن خبز وزيتون وشاي تقليدي  سوري مُعدّ بنبتة “البابونج”. يوقظ الأبناء لإرسالهم إلى المدرسة بعد أن  حالفهم الحظ في الحصول على وثائق الإقامة من طرف السلطات المغربية، والسماح لهم بالولوج إلى مؤسسة محمد خير الدين الابتدائية .

“أبو الخير”، يجلس جلوس القرفصاء، يدعونا لمشاركته كأس الشاي كعادة سورية دلالة على كرم الضيافة “إِنْتُو المغاربة والله نَاسْ طَيّبِين، حَنُونِين، محترمين، واَحْنا عايشِين هِينَا مستورين معاكو، تفضلو والله شرّفتونا”.

أشعل “أبو الخير” سيجارته، وملامحه يعلوها الحزن الشديد، وعيون تملؤها الدموع. قبل أن يبدأ في سرد المعاناة، إبتداءً من دخولهم  الأراضي الجزائرية، مشيا على الأقدام، تحت حرارة شمس الصحراء الحارقة، ثم النوم في العراء ما يناهز ثلاثة أيام بين الحدود الجزائرية-المغربية، قبل أن تسمح لهم سلطات الرباط  الدخول عبر فكيك. ثم نقلهم بعد ذلك إلى مدينة وجدة في وضع صحي حرج. وهو الذي لازال يعاني من تبعاتها لحد الساعة.

قال  بلكنة سورية بطيئة معلقا  على ما اعتبره أبرز تبعات الحرب على حياته وحياة باقي عائلته:  “يا ما تعذبنا و جُعْنا كْثِيرْ ومرضنا، ما زالت أقدامي ورأسي يْأَلَّمُونِي. وزوجتي وأبناء أخي الصغار أصيبوا بمرض الأعصاب …”   

“أبو الخير” الذي كان يبكي بشدة، لم يتحدث إلينا وحده في تلك الجلسة، بل قاطعه ابن أخيه “خضر” البالغ من العمر 30 سنة  والذي كان يشاركنا وجبة الفطور، ” لهلا يوفقهم لي جابو لنا الحرب ، شردونا الله يْحاسِبهم ..”

“أبو الخير”، عاد إلى الحديث بعد ذلك  مسترجعا ذكرياته مع أقاربه الذين لقوا حتفهم أمام عينيه. دون أن يملك وقتا كافيا حتى لعملية دفن جثثهم احتراما لآدميتهم التي ضاعت في خضم حرب طاحنة. “مَا عْرَفْنا شُو أسبابها” هكذا يتساءل الرجل.

وليضعنا في صورة  ما تعيشه سوريا من آلام الحرب، شغّل  هاتفه فوجدنا أنفسنا أمام صور وفيديوهات واقعية  هي كل ما بقي له كذكرى عن بلدته وممتلكاته قبل الدمار والخراب.

“أبو الخير”، لم يتوقف عند هذا الحد، بل سرد أيضا محنته بعد النزوح الى المغرب  بسبب ما وصفه بالعيش بين سندان مصاريف الحياة اليومية التي أثقلت كاهله طيلة خمس سنوات، و مطرقة الدخل المحدود الذي يتقاضاه من زبناء قلائل يقصدونه بين الحين والآخر للاستفادة من خدماته في صناعة الأسنان التي يعتمد فيها على وسائل  بسيطة.

كما تطرق هذا المهاجر السوري في  حديثه، الى مصاريف العلاج والتغذية ثم فواتير الماء والكهرباء …  دون إغفال التكلفة المالية لمصاريف الكراء التي تقدر ب (2000 درهم)

وأضاف “أبو الخير” في ذات الحديث: “احْنَا بَدْنَا نعيش ولا نرضى السرقة أو التسول …” وأتوفر  على مهنة شريفة . لكن تنقصني وسائل العمل وأتمنى أن تلتفت السلطات المغربية إلينا لمساعدتنا من أجل تطوير هذا المشروع …”

“أبو الخير” ، بهذه الأمنية البسيطة ، يأمل الخروج من دوامة أزمته المهنية  بالمغرب، في انتظار توقف الحرب للعودة الى الوطن الذي يرثيه بالبكاء كلما استرجع  ذكرياته الجميلة مع بلدته التي وُلد وعاش فيها طيلة 65 سنة بمنطقة “ادلب”.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)