إضراب اللاعودة..

دخل عدد من النشطاء المعتقلين على خلفية حراك الريف إضرابا مفتوحا عن الطعام -وعن الماء في وقت لاحق- مباشرة بعد جلسة النطق بالحكم استئنافيا، والتي تم خلالها تثبيت الأحكام الابتدائية التي جاءت بما يزيد عن ثلاثة قرون من السجن النافذ في حقهم، المعتقلون عزموا على جعله هذه المرة اضراب اللاعودة أو إضرابا حتى الشهادة كما صرحوا لعائلاتهم.

تتبع أخبار هذه الخطوة وتطوراتها يكاد يكون مستحيلا بسبب تكتم إدارة المؤسسات السجنية حيث أودع النشطاء متفرقين وفي زنزانات انفرادية أحيانا، وبسبب الغياب التام لأي تغطية من طرف المنظمات الحقوقية والهيئات الإعلامية، الأمر الذي يثير السخط ويدعو للتساؤل. المصدر الوحيد لمعرفة مستجدات الاضراب والحالة الصحية للمضربين هو الاتصالات أو الزيارات التي يحظى بها المعتقلون والتي يتم لاحقا تفريغها في شكل تدوينات لأشقائهم وعائلاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، مما يزيد الوضع غموضا ولبسا ويوحي باقتراب وقوع كارثة. حالة التراضي هذه والتطبيع مع هذا الوضع الخطير جدا على جميع المستويات ابتداء من الجهات الرسمية ومرورا بالمنظمات المدنية وانتهاء بالتفاعل على المستوى الشعبي عار حقيقي.

خطوة الاضراب عن الطعام هذه المرة تبدو أكبر من تصعيد يهدف من خلاله المعتقلون لإجبار المسؤولين في المؤسسات السجنية على الخضوع لمطالب معينة، كما أنها كذلك أكبر من مجرد الاحتجاج على وجودهم خلف القضبان أو على محاكمتهم المسيسة، هذه المرة ورجوعا لتفاصيل الإضرابات المختلفة التي يخوضها بشكل متقطع نفس المعتقلون منذ 2017 يبدو أن الهدف تجاوز الضغط لتحسين شروط الاعتقال، لأن الرهان على تحقيق أي شيء سيعود خائبا في قضية ابتدأ خلالها اختراق المواثيق والقوانين منذ لحظة الاعتقال الأولى مرورا بالتحقيق فالمحاكمة بجميع مراحلها، الاضراب عن الطعام هذه المرة هو تشبت أخير بالكرامة وترحم على الانصاف وتفضيل للقضاء عطشا وجوعا على التطبيع مع وضع غاية في الظلم والامتهان. وعليه فإن محاولة ثني المعتقلين عن الاستمرار في معركتهم الأخيرة هذه تبدو أمرا غاية في الصعوبة.

كذلك يبدو اضراب هذه المرة هادفا لتحريك الشعور العام ولفت الانتباه للقضية وحشد الدعم المطلوب لها، خاصة أن تأييد الأحكام الابتدائية وما تلاها من تشتيت المعتقلين على أكثر من سجن محلي بمدن مختلفة كان بغرض جر النسيان والرضوخ للأمر الواقع وزرع الشك من محاولة صنع أي تغيير، الاضراب عن الطعام اليوم يشبه وقودا يضمن استمرار الاهتمام بالقضية والترافع عنها.

ولا يبدو -وخلافا للأعراف المعتادة- أن إدارة السجون تنوي فتح حوار مع المضربين والاستماع إليهم لمحاورتهم ومحاولة ثنيهم عن الإضراب أو دفعهم لتوقيفه ولو بتغذيتهم قسريا إذا لزم الأمر، وهو الأمر المستغرب حقا فإن لم يكن أصحاب القرار في هذا الملف ينون توقيف هذا الاضراب خوفا على صورتهم خارجيا فعلى الأقل كانوا ليقدموا عليها لحرمان المعتقلين من الظهور كشهداء بعد أن نالوا صفة الأبطال.

إن ما يحدث في كل لحظة داخل هذه الأجساد المضربة عن مقومات الحياة وما يموت فيها من خلايا وأنسجة قد لا يتم تعويضها لاحقا أبدا ليس شأنا خاصا بالمضربين فقط، بل إن تأثيره يشملنا جميعا، فبالتزامن مع ما يتغير داخل أجسادهم تحدث داخلنا أيضا تغيرات كثيرة وأشد خطورة، تتعمق خلالها أكثر تشوهاتنا الداخلية وينفذ رصيد انسانيتنا بالتوازي مع نقص كتلتهم العضلية ووزن أجسادهم، وأيا كان ما سيحدث لاحقا فقد لحقنا العار وانتهى الأمر. وسنعود مستقبلا للجلوس والاستماع لشهادات ومذكرات حول وضع قاتم لن نملك انتقاده لأننا كنا للأسف شركاء ومساهمين فيه، وسيقدم بلدنا لائحة أسماء جديدة ستذكر بالتوازي مع المهاتما غاندي ومحمد صلاح سلطان وسامر العيساوي وخضر عدنان عند أي حديث عن الاضراب عن الطعام.

إنها دائما الثانية والنصف صباحا.. سيصبح هذا التوقيت ثابتا.. ستستمر ظلمة هذا الليل لسنوات اخرى كما يبدو. الثانية والنص الوقت المفضل للاعتقالات وجلسات التحقيق، وهو نفسه التوقيت الذي تهيج فيه عذابات الأمهات.. إنه وقت حالك من تاريخ هذا الوطن يمتد فيه الألم في الزمن لكن دون أن تترك عقارب الساعة الثانية والنصف صباحا.

” بناء على كل ما سبق، فقد قرَّرتُ أن أدخل في اضراب عن الطعام. ولم أقرر الدخول في اضراب عن الطعام لأجل الاضراب فقط، وإنما أدخل فيه ليكون بمثابة جرس انذار ودقا لناقوس الخطر، وتعبيرا من قبلي عن عدم الِّرضَا على ما وصل إليه حالنا“. من رسالة للمعتقل ربيع الأبلق خلال إضراب سابق.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)