رأي: الخطاب الإسلامي بين التطاول والكهنوت

ياسين بوعمار

ظهرت في الآونة الأخيرة أصوات وتيارات عديدة تنتقد ما تسميه احتكارا وكهنوتا يمارس حسب رأيها على الدين الإسلامي من طرف الجهات الرسمية والهيئات الدينية والفقهاء، وترى أن الدين هو مجال يحق لكل شخص التحدث فيه بحرية، ثم جاء بعدهم عدد من الإعلاميين المتصدرين لعدة منابر إعلامية عربية، يتحدثون ويحللون قضايا الدين، ينتقدون ويؤيدون، وقد كان الانتقاد والرفض وأحيانا السب موقفا ثابتا في قضايا عديدة، خاصة عند التطرق لجامعي السنة النبوية المشرفة وأئمة المسلمين عليهم رحمة الله جميعا، والذي نال النصيب الأكبر من هذا هو الإمام البخاري.
عن هذا كله تطرح الأسئلة التالية نفسها: هل فهم القرآن والسنة أمر متاح للعموم؟ وبدون أي شرط أو قيد؟ هل هناك احتكار للخطاب الإسلامي من طرف المؤسسات والهيئات الدينية وفقهائها؟ وأخيرا هل الهجوم الإعلامي في القنوات العربية على التراث الإسلامي هو رأي بريء أم وراءه نوايا خفية؟
• هل يعد فهم القرآن والسنة أمرا متاحا للعموم؟ وبدون أي شرط أو قيد؟
إن الدين الإسلامي دين كامل وشامل، والقرآن الكريم كتاب صالح لكل زمان ومكان، نزل باللغة العربية الفصحى على أكثر الأقوام فصاحة وبلاغة فأعجزهم بفصيح القول، فلم يجرؤ أحد من المعاصرين للرسالة النبوية المشرفة على أن يطعن في التركيبة اللغوية للقرآن الكريم بل أكثر من ذلك، كان الكافرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من أهل قريش يكذبونه قائلين أنه شاعر، وهذا الوصف إن دل على شيء فهو يدل على البراعة والبلاغة اللغوية للنصوص التي جاءهم بها. علما أن اللغة العربية التي كان أهل قريش يتحدثونها أصعب وأعقد من التي نتحدث بها في عصرنا بمراحل، وهذا ما يجعل تفسير، أو تدبر، أو تأويل آيات القرآن الكريم يستدعي إلماما بقواعد اللغة العربية لضمان التأويل الصحيح لمضامينه.
لكي لا يكون الكلام الذي نورده خاليا من دليل ولا برهان، نضرب مثلا ببعض الآيات التي تحتوي على إعجاز بياني واضح وصريح يؤكد ما نقول:
قال تعالى: “وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ” (سورة الشورى، 43)
ثم قال: ” يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ” (سورة لقمان، 17)
في الآيتين السابقتين نلاحظ أن الله عز وجل استخدم لام التوكيد في الأولى بينما لم يستخدها في الثانية، والأمر في ذلك ليس مجرد اختيار أو تنويع للمفردات، حاشاه سبحانه، بل هو أن الله تعالى يريد أن يبين درجات العزم، ففي الآية الثانية يتحدث سبحانه عن مصيبة مست الإنسان بلا غريم كالمرض مثلا، وقد قال عنها “من عزم الأمور” لكن في الآية التي قبلها يتحدث ربنا الكريم عن حالة المصيبة المقترنة بغريم، كالظلم على سبيل المثال والصبر فيها أعلى مرتبة وأصعب، لذلك أضيفت لام التوكيد وهي تفيد أنه أعلى درجة من ما ذكر في سورة لقمان الآية 17.
ثم ننتقل إلى آية:” وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ” (سورة المائدة، 38)، في هذه الآية الكريمة قال سبحانه “فاقْطَعوا”، لكن في الآية “فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ” (سورة يوسف، 31) استعمل كلمة “قَطَّعْنَ” بالتشديد، والسر وراء ذلك نجده في قاموس اللغة العربية: “قَطَعَ” تفيد الفصل، أو فصل الشيء إلى جزئين، فنقول ‘قَطَعْتُ الحبل’ أي فصلته إلى جزئين، لكن “قَطَّعَ” يفيد التكرار في فعل القَطْعِ والمبالغة فيه، ومثالا على ذلك، نحن نقول ‘قَطَّعْتُ التفاح’ أي فصلته إلى قطع كثيرة أو أعدت عملية القطع عدة مرات، والسر وراء اختلاف الآيتين في هذه الكلمة هو دقة الوصف القرآني، ففي آية السارق والسارقة يكون القطع بمثابة فصل اليدين عن الجسد بحركة واحدة، أما في قصة سيدنا يوسف في الآية الثانية فكما نعلم من القصة أن زوجة العزيز قد آتت كل امرأة من الظيفات سكينا وفاكهة فلما رأين سيدنا يوسف عليه السلام قطّعن أيديهن ظنا بأنهن يُقطّعن الفاكهة وكما أوردت في المثال السابق فتقطيع الفاكهة يستلزم استعمال صيغة فَعّلَ من فعل ‘قَطَعَ’، وهو ما فعلنه بأيديهن.
مثل هذه الأمثلة في آيات القرآن الكريم عديدة، وتقودنا إلى الجزم القاطع أن أول ما يجب على من يفسر أو القرآن الكريم إتقانه هو اللغة العربية لأنها السبيل إلى معرفة المقصود الصحيح من كل جملة، وهذه ما هي إلا مرحلة أولى من عدة مراحل يجب المرور بها. إذن، بما أننا استنتجنا أن هناك على الأقل شرطا إلزاميا يجب أن يتوفر للمقدرة على الاستنباط المباشر من القرآن الكريم فهذا تلقائيا ينفي قول من يدعي أن الفهم المباشر من القرآن الكريم متاح للعموم.
أما عن الشروط التي يجب أن تتوفر في من يقوم بالاستنباط المباشر من القرآن الكريم فهي تتلخص في التمكن من أدوات ومناهج تفسير النص القرآني التي تعد علما قائما بذاته، بل هي أكثر من ذلك تعتبر ملتقى العلوم، حيث أن تفسير النص القرآني يستدعي إدراج مجموعة من العلوم كالفقه، والعلم التجريبي، والمنطق، والاقتصاد، إلخ، ولا يمكننا الحديث عن تفسير للنص القرآني في غياب هذه الأدوات لأنه يعد بذلك ظنا وتفسيرا على هوى النفس وميولها، وقد ينتج عنه بالتالي تحميلٌ للنص بمعنى لا يلزمه وهذا يعد خطأ منهجيا قاتلا.
• هل هناك احتكار للخطاب الإسلامي من طرف المؤسسات والهيئات الدينية وفقهائها؟
هناك فرق شاسع بين الكهنوت الذي تمارسه الكنيسة على الدين المسيحي وبين قولنا بضرورة التخصص من أجل التصدر للفتوى والنقد انطلاقا من تحليل مباشر للنصوص، فالكهنوت عند الكنيسة يكمن في كونها تجعل من آراء وتقريرات الكاهن أو البابا أو الراهب كلاما معصوما، مقدسا، ومؤيدا من الرب. وهذا خلاف ما يقول به أهل العلم في الإسلام، فالبحث والتعلم والدراسة في الدين متاحة لأي كان في الإسلام، فإن ألَمَّ بأدوات التفسير المباشر يمكنه أن يفسر، أما إن لم يستطع ذلك فأنا ولا أظن غيري من الدعاة إلى التخصص يقولون بإخراس صوته وإنما في هذه الحالة يجب على المتطرق إلى مواضيع تهم الدين الإسلامي أي يستند على أهل التخصص على سبيل المثال: “أن نستند على تفسير أحد المفسرين، وعلى رأي من يراه صحيحا من المتخصصين من أهل القرآن والحديث” وهذا ينافي تماما الاحتكار والكهنوت. وهذه القاعدة ليست حكرا على العلم الشرعي أو الفقه بل على كل المجالات العلمية، فأهل الرياضيات من غير العلماء يستندون في تحليلهم على مبرهنات وقواعد لعلماء هذا العلم. والأمر سيام في الفيزياء والكيمياء وعلوم اللغة العربية. فلا أعلم صدقا لما تكون سيرورة العلوم كلها مبنية على هذا الأساس ولم يرفضها أحد إلا في حالة علوم الشريعة الإسلامية.
• وأخيرا هل الهجوم الإعلامي في القنوات العربية على التراث الإسلامي هو رأي بريء أم وراءه نوايا خفية؟
إن أكثر ما سمعتُ مَن يسمون أنفسهم بالمجددين أو منقحي التراث الإسلامي ينتقدونه بشدة هو كتاب الإمام البخاري رحمه الله، والله وحده يعلم إن كان الانتقاد تعبيرا عن رأي بريء أم هو محاولة للتشكيك في السنة النبوية المشرفة.
كتاب “الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه.” الذي كتبه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري هو مجهود علمي ضخم بذله الإمام عليه رحمة الله لجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا هنا أسطر على كلمة “علمي” لأن كتاب الجامع الصحيح ليس كتاب رواية أو قصة بل هو تجميعة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بمنهج دقيق لم ينتقده ولم يستطع تفنيده ولا الإتيان بأحسن منه أحد من اللاحقين من علماء المسلمين، وأنا هنا لا أدّعي أن الكتاب معصوم كما هو القرآن الكريم، أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، إنما وفقا لقوانين المنطق فإن احتمالية وجود أحاديث غير صحيحة في معناها ضئيل جدا، وحتى إن وجدت فهذا لا يعيب الكتاب ولا صاحبه في شيء لأن الخلط الذي يقع فيه العديد هو ربط صحة الحديث بصحة معناه في كتاب البخاري وهذا منافي للحقيقة لأن الضمانة التي يقدمها صحيح البخاري هي ضمانة صحة السند والمتن، أي أنه يضمن لك أن الحديث فعلا قد روي من طرف الراوي الأول، أما صحة معناه فربما لا تتحقق بسبب فهم خاطئ للصحابي الذي روى الحديث، رغم أن هذا الأمر بعد احتمال حدوثه ضئيلا جدا.
اشترط الإمام البخاري لقبول الحديث أن يكون رواته متصفين بالعدالة والصدق والضبط وعدم التدليس أو الخلط، وكذلك سلامة الاعتقاد، أما بالنسبة للسند أن يكون متصلا برواية الثقة العدل الضابط من أول السند إلى منتهاه من غير شذوذ أو علة، وأن يكون هذا الراوي مشتهرا بعلمه وتقواه ، وقد تميز الإمام البخاري بشرط جعل كتابه أصح كتب الحديث، متفوقا في ذلك على كتاب الإمام مسلم، وهو اشتراط أن يكون راوي الحديث قد سمع عن من ينقل عنه، دون الاكتفاء بشرط الإمام مسلم وهو أن يكون راوي الحديث معاصرا لمن روى عنه، فقد يكون الراوي عاش في زمان من روى عنه دون أن يكون بالضرورة قد التقى أو سمع عنه. كل هذا يجعل من منهج الإمام البخاري منهجا دقيقا يسد جل احتمالات الخطأ، ويبقى الكمال لله وحده.
لكن في هذا الصدد يوجد نوعان من الأفكار المبالغة نوعا ما فالأول يتطاول على الإمام البخاري وعلى كتابه نافيا عنه اجتهاده ومبخسا عمله، أما الثاني فهو فئة الفقهاء الذين جعلوا كتاب البخاري مقدسا لا يرد فيه الحديث ولا يناقش، وأظن أن كليهما على تمادي في الرأي، فالأصل في هذا كله أن لا نبخس الجهد العلمي الذي بذله الإمام البخاري، ونتفق على أنه من الناحية العلمية يعتبر أدق كتاب في جمع الحديث على وجه البسيطة، ثم نعترف أنه لا قداسة لهذا الكتاب وإنما يمكن أن يكون فيه بعض الشوائب لكن حتى وإن وجدت فهي في أحاديث تعالج أمورا ثانوية في الشريعة الإسلامية، أما الأمور الأساسية فلا اختلاف عليها بين المحدثين وكتب الحديث.
أما وسط كل هذه الآراء المختلفة والمتباينة، فهناك آراء أخرى بعيدة كل البعد عن النقاش المنهجي، بل هي مجرد أدوات إعلامية هدفها زعزعة عقيدة المسلمين بالتشكيك في أحد أهم مصادر التشريع الإسلامي ألا وهي السنة النبوية المشرفة. وأنا هنا لا أبالغ في تبني نظرية المؤامرة، لكن في هذه الظرفية بالذات ومع هذا التركيز الإعلامي المبالغ فيه على كل من يأتي بأفكار شاذة مستفزة عن هذا الموضوع، فالتعامل مع هذا ببراءة يعتبر سذاجة.
ختاما، الدين الإسلامي ليس حكرا على أحد، لكن في خضمه مستويات عديدة، فالعقيدة والممارسة متاحة لكل مسلم، أما التفسير والتدبر فهو مستوى آخر من التعامل مع الدين الإسلامي، وهو أيضا ليس حكرا على فئة معينة، لكنه يستدعي أن يكون المتطرق لهذا المستوى دارسا ملما بالمناهج والأدوات التي ذكرنا سابقا، وهذا الأمر ليس خصوصية لهذا الموضوع فقط، فالشريعة الإسلامية هي مجال كما باقي المجالات، بل أكثر من ذلك فهو يتطلب الإلمام بمعارف من مجالات أخرى موازية لإدراك المعاني الصحيحة للنصوص القرآنية، كالطب والفيزياء والكيمياء والمنطق، إلخ…، استنادا على القاعدة التي تقول:” الحكم على الشيء فرع عن تصوره”. فكيف لشخص لا يملك أدوات التحليل والتفسير أن يشكل تصورا عن شيء يفترض به أن يصدر حكما في حقه. عن هذا السؤال أترك الجواب للقارئ الكريم.

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 1 )
  1. قارئ :

    ههه اخويا واش نتا متمكن فالتفاسير باش تشرح الاايات كيما بغيت ؟ هي كتب التفاسير المعتمدة غي نرميوهم .

    0

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)