منتصر لوكيلي يكتب..”في الطفولة” بين الذاكرة السمعية والذاكرة البصرية

أتممت بالأمس قراءة كتاب كنت قرأته منذ حوالي ثلاثة عقود أو أكثر، كتاب لم أكن أعيره اهتماما وهو يستقر في منزلنا بين كتب أخرى مثل: “المنتخب من شعر العرب” و”كليلة ودمنة” و”البخلاء” وبعض الروايات الغربية والروسية المترجمة إلى العربية… كان الكتاب الملون بالأزرق يحمل عنوان: “في الطفولة” لكاتبه الأديب المغربي عبد المجيد بنجلون … أما لماذا تذكرت الكتاب وقمت باقتنائه، فهو أن هاتفي النقال أصيب بمرض عضال في بطاريته، فأخذته إلى عيادة عارف خبير بإحدى الأسواق الشعبية، وما أن تسلمه وفحصه، حتى قرر أن يدخله الجناح الخاص بالعمليات، فوجدتني أمام ثقل الزمن وسأم الانتظار، ووليت وجهي نحو الباعة والتجار عساني أضيع بعض دقائق هنا وأتسكع بضع دقائق هناك. وعلى بعد بضعة خطوات كان أحد باعة الكتب يعرض عناوينا صارت تحاصر المتسكعين أينما ولوا وجوههم: “نظرية الفستق” و” لا تحزن” وكتب أخرى للتنمية الذاتية، وفي وسط هذا السديم طالعني كتاب ملون بالأزرق، حتى خُيل إلي أنه نفس النسخة التي كانت تسرح في منزلنا في ثمانينيات القرن العشرين، لوحة الغلاف تضم جدارا يريد أن ينقض، ولست أدري هل سيقيمه أحد أم سيتهاوى وتحته كنز الأيتام؟ وخطوط هندسية للزليج باهتة في الأعلى والأسفل، وقد كتب بخط الرقعة اسم الكاتب في الأعلى بالحبر الأسود (عبد المجيد بنجلون) واسم الكتاب في الوسط بالبني القاتم (في الطفولة). وجدتني أنفض الغبار عن هذه النسخة وأقتنيها بعد حوار قصير مع البائع عن القراءة والكتابة وحرفة الأدب وغلبة الجهل والجهلة.
ثم طلبت من صاحب عيادة الهواتف أن يمتعني بكرسي صغير لأجلس وأنتظر بينما أعيد مطالعة ما قرأته طفلا بعد أن صَيَرتني الكتب كهلا. وبالرغم من كون الكرسي المطلوب كان بقرب قلة ماء وُضعت لكي يشرب منها السابلة، فأحسست في البدء بأني قصي بن كلاب المسؤول عن السقاية والرفادة .. إلا أني سرعان ما نسيت العالم بأسره وأنا أرتمي في أحضان “في الطفولة”، والاغرب أني وجدت ذاكرتي ما زالت تحفظ بعض الفقرات عن ظهر قلب كقول الكاتب: ” لو أنّني كنت أعرف شيئا عن الأفلاك والأبراج وطوالع الكواكب، لما نفعني ذلك إلى معرفة هل اليوم الذي ولدت فيه كان يوم سعد أو يوم نحس، ذلك أنّني لا أجهل هذه الأشياء فحسب، ولكنني أجهل اليوم الذي ولدت فيه أيضا، …”
بدأت قصتي مع الكتاب في أواخر الثمانينيات حين انتبه شقيقي الأكبر بأني أطالع بعض قصص الأطفال لمحمد عطية الأبراشي وبعض الروايات البوليسية، فاقترح علي أن أرقى بمستواي قليلا، لا سيما وأني تجاوزت العقد الأول من عمري، وصارت لغتي أكثر تهذيبا، ولست أدري كيف وقع بيننا اتفاق أن يقرأ علي وأنصت لقراءته؟ لتبدأ متعة الكتاب المسموع، كان يتعمد أن يكون الجو باردا، فأنعم في مكتبه بقليل من الدفء في غرفة شبه مظلمة، يقرأ فيها على ضوء مصباح خافت، فتتراقص صور الكتاب أمامي، حتى إذا أنهى فصلا طلب مني المغادرة إلى الغد، فأستعطفه وأرجوه لقراءة الفصل الموالي، وليته لا يستجيب، فكلما أنهي فصلا إلا واستبد بي الفضول لمعرفة وقائع الفصل الموالي في كتاب ناهزت فصوله الأربعين. كان يكرر مشهد شهرزاد وقد أدركها الصباح، ويغلق الكتاب الأزرق ذا الجدار المنقض، وأذهب إلى فراشي لأكرر مشاهد إنجلترا كما رآها بنجلون في عشرينيات القرن العشرين، وأتخيل منظر المراكشيين في مانشستر وهم ضاحكون مستبشرون، ويقض مضجعي منظر الموت يفتك بأم الصبي، وأستلذ حواراته مع اخته لا سيما تلك المتعلقة بالسؤال الأبدي للأطفال: من أين يأتي الأطفال؟
تحكي “في الطفولة” سيرة طفل مغربي تنَّقل بين مانشستر بإنجلترا وفاس بالمغرب في العقد الثاني من القرن العشرين، فالكاتب رأى النور في مدينة الدار البيضاء في عام 1919، وقضى فيها بضعة أشهر قبل أن يهاجر صحبة والديه إلى مدينة مانشستر، لأب فاسي يشتغل بالتجارة، وديدن العائلات الفاسية العريقة التنقل من أجل كسب الحياة والتمتع بها، فتجدهم في إنجلترا والسنغال يبحثون عما أسماه الرسول الكريم بتسعة اعشار الرزق.
وفي مانشستر، يتذكر الطفل عائلة انجليزية من أصول يونانية (آل باترنوس) كان كثير التردد عليها، وتحتفظ ذاكرته الحديدية بتفاصيل عن أفرادها، كما يتذكر وفاة والدتهم ووفاة والدته هو أيضا وميلاد شقيقته والمدرسة ومكتب الوالد… ثم يسافر إلى المغرب بشكل مؤقت فيعود حاملا من سفره قصصا يلهب بها خيال زملائه الإنجليزيين الصغار .. وما يلبث أن يشد الرحال إلى فاس لتستقر العائلة بها بشكل نهائي، ففي سن التاسعة أو العاشرة كان على بنجلون الطفل أن يحدث قطيعة مع ذكريات الماضي ليستقر وعيه على حاضره، بدءا باللغة ووصولا إلى كرة القدم والحمير والعجول وشتى المغامرات المختلفة حتى يقر قراره تلميذا في جامع القرويين حيث وجد فيه مرتعا لكثير مما كان ينقصه من معارف فأصبح الأدب طريقه وطريقته… ينقسم الكتاب إلى قسمين، قسم يحكي فيه عن طفل مغربي فتح عينيه بالمهجر مقامه بانجلترا وقسم يحكي فيه عن طفل لم يعرف وطنا غير إنجلترا مقامه في المغرب، وكأن بيئتين مختلفتين أشد الاختلاف التقتا في طفل ولد على الفطرة ثم لم يلبث أن شب عن الطوق فغادر نحو مصر بحثا عن بيئة ثالثة، لكنها مرحلة لم يتناولها الكاتب فهي خارج مدار الطفولة، بل إنه ختم كتابه بقوله: «… وبعد، فإن قصة طفولتي يجب أن تقف هنا، وليس من المهم أن يعرف بها القارئ شخصي، فما قصدت إلى ذلك، وإنما قصدت أولا إلى إرضاء رغبة في نفسي ـ وقصدتُ ثانيا إلى تسجيل حياة طفل عاش في بيئتين تكادان أن تكونا متناقضتين..».
وبالعودة إلى قراءة الكتاب في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، فإن الحظ شاء أن يقرأ علي شقيقي الجزء الأول من الكتاب الخاص بمقام الطفل في مانشستر، ثم سلمني الكتاب لأتم قراءته بنفسي، فربما كان أحوج لوقته ليقرأ الكتب الضخام كاللسانيات لفردناند دوسوسير أو الرأسمال لكارل ماركس بدلا من قضاء ساعات في القراءة بصوت مرتفع لكتاب “طفولي” أمام متفرج جشع … أتذكر أني لم أقرأ بقية الكتاب بل التهمتها، فكنت أبحث عن تسلسل الأحداث وأطفئ ظمأي بدل التلذذ بالنص، كنت كمن دربه أهله على عادات الأكل الأنيق بالشوكة والسكين والمنديل، والتمهل في المضغ وتذوق الأصناف، لكنه وجد نفسه وحيدا في المائدة، فبدأ يأكل بيديه وملأ بطنه غير آبه بما تعلمه.
ما إن أخذت الكتاب وشرعت في قراءته، حتى فوجئت بكوني لم أنس أي تفصيل في الجزء المسموع، بل وجدتني أردد بعض المقتطفات وكأنها من صميم تأليفي. أما الجزء الذي قرأته، فلم أتذكر منه إلا النزر اليسير كوفاة أخت بنجلون أو رؤيته للملك محمد الخامس في حمامات سيدي احرازم، وربما سببي في تذكر ذلك ما رواه في الجزء الأول عن رؤيته للملك جورج الخامس في إنجلترا حين مر قرب منزل والده بمانشستر، ربما لكون الرقم خمسة اشترك فيه كل من ملك إنجلترا وملك المغرب، فشجع ذلك ذاكرتي على مقاومة النسيان بشكل محتشم.
لقد نسيت كل ما قراته بعيني أو فلأقل بأم عيني، بينما لم تغادر ذاكرتي ما التقطته أذني. فهل هذا دليل على تفوق الذاكرة السمعية لدي على الذاكرة البصرية؟ لقد تم تعريف الذاكرة السمعية بأنها إحدى مكونات الذاكرة المسؤولة عن الاحتفاظ بالمعلومات التي يتلقاها الإنسان من محيطه عن طريق حاسة السمع، ولذلك فهي تتفوق على الذاكرة البصرية في كمية المعلومات التي يمكن تخزينها فيها وكذلك طول المدة المخصصة لها.
ولست أتذكر من أخبرني بوجود ثلاثة أنواع للذاكرة: فالنوع الأول ذاكرة بصرية، يتميز صاحبها بأنه لا يحب الكلام ويفضل الخلاصة في الأمور والمواضيع التي يهتم بها، أما النوع الثاني فهي ذاكرة سمعية، ويتميز صاحبها بأنه يحب التفاصيل الكثيرة والكلام للاستيعاب والاقتناع. ويشاع أن أصحاب الذاكرة السمعية لا يستطيعون اتخاذ قرار إلا بعد أن يستوعبوا كل جوانب الموضوع وتتميز قراراتهم بالتمهل والتريث، بعكس أصحاب الذاكرة البصرية الذين يتخذون قراراتهم بشكل سريع وتتميز تصرفاتهم بالعجلة، أما النوع الثالث فهو الذاكرة الحسية التي يعتمد أصحابها كثيرا على عواطفهم وأحاسيسهم، لذلك يكون من السهل إقناعهم بمجرد الضرب على وتر العاطفة … ولا بد أن هذه الذواكر (ولست متأكدا من صحة هذا الجمع) تجتمع في نفس الشخص وتتقاتل بينها للظفر بمساحات أكبر في عقله، ولعمري كيف يفعل أطفال اليوم وقد حاصرتهم الإليكترونيات فشدت أبصارهم إلى الشاشات الزرقاء؟
قرأت من السير الذاتية الكثير، من كتاب الغرب والشرق، وكلما تذكرت ما كتبه هرمان هسه أو حنامينه إلا وتخيلتهما كبارا يرويان وقائعا تحبس الأنفاس، أما عبد المجيد بنجلون، فلا أتخيله إلا طفلا يحكي لي وأنا طفل أيضا ما رآه فأستلذه وأستطيبه، ولا أبالي بتفاصيل الكبار، حتى إذا أعدت قراءة الكتاب وأنا في العقد الخامس من العمر، وجدتني أحاور والد الطفل وهو يكابد في صمت من أجل أبنائه… وعلمت أن ما “في الطفولة” من جذوة لا تنطفئ بسهولة…
عندما أعاد لي “طبيب الهواتف النقالة” هاتفي وقد بل من مرضه وأشرقت صفحته الباهتة، وعلمت منه أنه أصلح بطاريته وغيّر واجهة شاشته ومعطفه الخارجي… كل ذلك لم يكن ذا بال، فقد كان عقلي وقلبي مع كتاب سافر بي عقودا، وكنت مشغولا بأول فرصة أخلو فيها إلى نفسي ونفس الكتاب، فرفعت رأسي أتلمس طريقي، وأبحث عن جدار يريد أن ينقض علني أقيمه دون أن اتخذ عليه أجرا، فربما إذا كبر الأبناء وجدوا كنزهم سليما معافى… وعلموا ان ما “في الطفولة” لم يتم مسه، وأن ما عليهم سوى الصبر على مرافقة مُرمم الجدار وفهم مقاصده وإكبار رسالته، وتلك –على أي حال- حكاية أخرى.
منتصر لوكيلي
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)